هل كان فهمنا لتاريخ النضال ضد المستعمر في أرض العرب فهماً صحيحاً؟ لقد فهمناه على أنه كان رفضاً مطلقاً للعبودية والاستغلال، وأنه كان عطشاً مطلقاً للحرية والكرامة. ومن المؤكد أننا لم نفهمه فقط كنضال ضد أناس أغراب، لا يتكلمون لغتنا، ولا يحملون ثقافتنا، وبالتالي لا يحق لهم أن يحتلوا أرضنا ويمارسوا نهب ثرواتنا ويستبيحوا كرامتنا الإنسانية.
لكن الآن، وبعد مرور العقود من السنين على تحرير أوطاننا وشعوبنا من دنس الاستعمار الخارجي والمستعمرين الأغراب، نحتاج أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: هل كان نضالنا ضد الاستعمار حباً في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، أم كان كرهاً في حكم الأغراب؟
نطرح هذا السؤال لنعرف إن كان الموضوع بالنسبة للشعوب العربية، قديماً وحديثاً، هو مفاضلة بين الخارج والداخل وانتصار للداخل (أنا وابن عمي على الغريب) أم أن الموضوع هو إيمانٌ عميقٌ وتمسكٌ لا يهتز ولا يضعف ولا يساوم بقيم سماوية وإنسانية، تضع الكرامة الإنسانية وحرية البشر والقسط والميزان وعدالة الأنظمة والمساواة في الحقوق والمواطنة فوق كل شيء آخر، بما في ذلك الحياة إذا كانت تحت العبودية بكل أنواعها.
إذا كان الموضوع هو إعلاء القيم السماوية والإنسانية الكبرى فان المنطق يقول بأن نضالات الشعوب من أجل تحقيق تلك القيم في الواقع المعاش لا يهمّها إن كانت الجهة التي تعتدي على تلك القيم هي من الخارج الاستعماري أم كانت من الداخل الاستبدادي الاستغلالي. إن الظلم هو الظلم سواءً أمارسه الحاكم الإنجليزي أو الفرنسي أم مارسته قبيلة متسلطة، أم مارسه مذهب طائفي متخلف أم عساكر سارقون للسلطة والحكم.
نعود إذن فنطرح السؤال: هل كان فهمنا لتاريخ نضالنا ضد الاستعمار خاطئاً؟ لن يكون الجواب سهلاً ولا قاطعاً، لكن لنلاحظ الآتي:
إن شعوباً ضحّت بالملايين من الشهداء والجرحى والمسجونين والمنفيين عبر العديد من سنوات الصراع المر ضد المستعمر الأجنبي، لا يمكن إلا أن تكون قد وصلت إلى عدم القابلية للتنازل عن حقوقها الأساسية الكبرى في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، أياً كانت الجهة التي ستسلبها تلك الحقوق، وتحت أي غطاء خادع يتم ذلك الاستلاب.
لكن تلك النتيجة البديهية لم تتحقق في الواقع العربي. فعبر ستة عقود من الاستقلال الوطني تعايشت شعوب الأمة بهدوء وقبول محيّر مع كل أنواع الظلم والاستبداد الداخلي. هل كان ذلك بسبب تاريخها الطويل تحت كل أطياف الملك العضوض الذي باع واشترى العباد، ورسّخ خوفاً مرضياً في النفوس، أم كان بسبب عادة الانغلاق الثقافي اللاعقلاني المتزمت لمفاهيم القبيلة والمذهب والدين وإيديولوجيات الآخرين المستعارة والمشوّهة؟ المهم أن كلّ ذلك قد أوجد لنا مجتمعات لا تعرف كيف تحسم الأمور، وتعيش في عالم الثنائيات المفتعلة العبثية المتعارضة دائماً، وبالتالي لا تستطيع تقديم الأولويات والأصول على الفروع والهوامش.
لكن جاء مد الربيع العربي المبهر وقال الكثيرون بأن جدار الخوف التاريخي قد حطمه شباب الثورات والحراكات، وأن أولوية الأولويات للأمة قد اتضحت تماماً للجميع: إنها الانتقال إلى الديمقراطية الإنسانية في السياسة والاقتصاد والاجتماع كشرط وجودي لأمة لم تذق طعم مثل تلك الديمقراطية عبر القرون الطويلة الموحشة. لقد ظننا بأن تضحيات شباب الأمة من أجل هذه الديمقراطية لن تهدر في هذه المرة مثلما أهدرت سابقاً تضحيات الأمة كلها من أجل حرية الأوطان وساكني الأوطان لتنتهي في عبثيات حكم الاستقلال.
لكن الهدر لتلك التضحيات القديمة والحديثة يحدث اليوم أمام أعيننا بصورة مفجعة حتى في الأقطار التي فجّرت ثورات الربيع العربي. مرةً أخرى يضحى بالمبادئ والشعارات والأهداف التي رفعتها ثورات وحراكات الربيع العربي في صخب صراعات الثنائيات الذي لا يهدأ: الدين أم العلمانية، الحكم المدني أم العسكري، البطل القائد القوي أم جميع الناس وهي تجرّب وتتعلم، التضحية بالاقتصاد أم التضحية بالسياسة، إلخ... من جدل عقيم يصرخ به إعلاميون مجانين ليل نهار.
انظر إلى مصر. هل خرج الثلاثون مليون في 30 يونيو لممارسة الانتقام والتهميش والاستئصال لهذه الجماعة أو تلك؟ أم لتعديل مسارِ حكمٍ ارتكب الكثير من الأخطاء والخطايا ومن ثم الرجوع إلى شعارات وأهداف ثورة 25 يناير من أجل الحرية والديمقراطية الحقّة والكرامة والعدالة؟ هل أن الجموع خرجت لإدخال مصر في دوامة سجالات الثنائيات وعبثية المقارنات بين أفضال هذا الحكم أو ذاك في التاريخ وفي الحاضر؟ وإبان ذلك الصخب ينسى الناس الديمقراطية وينشغلون بالسيسي ومرسي.
انظر إلى تونس. هل مشكلتها الملحة هي في كيفية تقسيم كعكة الثورة بين حزب النهضة وباقي الأحزاب والنقابات أم في كيفية إنقاذ الديمقراطية من خطر تشويهها وتدمير روحها على أيدي الطغاة من قبل والآن على أيدي قوى سلفية متزمتة تمارس العنف وتريد أن تتحكم في حريات العباد؟
انظر إلى سورية وكيف انتهت ثورتها من أجل الديمقراطية لتكون رهينةً في يد جيوش من التكفيريين الجهلة الذين يرتكبون أفظع الخطايا باسم قرآن الرحمة ورسالة محمد الإنسانية.
انظر إلى ليبيا واليمن والعراق ولبنان والسودان ودول مجلس التعاون والجزائر. لقد ضاعت أحلام الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة في جحيم الصراعات العبثية الممجوجة.
هل ينطبق علينا قول بطل العبثية في رواية كافكا الشهيرة «المحاكمة» من أنه «كثيراً ما يكون القيد أفضل للإنسان من الحرية؟» أمن أجل الوصول إلى مثل هذا الوضع العربي استشهد وضحى ملايين العرب؟
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4066 - الخميس 24 أكتوبر 2013م الموافق 19 ذي الحجة 1434هـ
فلسطين
يا فلسطين لا تخافي كلنا تحت اللحافي
مقال صريح
مقالك في التصميم يا فيلسوفنا. ارجوا ان تحلل لنا فب المقالات القادمة كيف و لماذا يتحول قاده الثورة الى مستبدين و دكتاتوريين ؟ هل هو بسبب ان قواد الثورة يجب ان ينتهي دورهم بعد التغيير و يتم تسليم السلطة للمدرين الأكفاء ؟ او بسبب التدخلات الخارجية ام ماذا ؟ أنا استغرب لماذا لا تنجح الثورات العربية و يتم تغيير جذري فيها؟ على الرغم ان بعض الدول ابتدأت بعدنا و نجحت و تطورت مثل سنغافورة كوريا الهند حتى افريقيا تتطور اما نحن فمحلك سر!
البنوك والإستعمار وتقديم المخابرات المركزيه الى المحاكم!
لا يقال أن الإسلام ظهر للأمه أو للعرب دون العجم لكن أممي فقد كان النبي محمد عليه وآله أفضل الصلاة والسلام أمي يعني أممي أقرب وليس فردي وإنما جماعي وإشتراكي وعلمي. قال ويش جحا تخلف عالمي أو تخلف شعوب وتراجع وتقهقر ورجوع أمريكا وقيادات الى الجهل والتجاره حتى بالبشر والجواري و النزاع والتنازع. يعني يحتج المجتم الى حمله على البنوك الربويه كما الإسلاميه وشركات التمويل وتدفيعها ضرائب عن السنوات الخدمه وإستخدام الأرض و ....
كلام صحيح
انا ارى ان بقائنا تحت الاحتلال البريطاني افضل بكثير ...على الاقل سيعمل الاحتلال البريطاني على تطوير الدولة وبناها التحتية وتوزيع عادل للوظائف ومستوى عالي من التعليم
سؤال
ربما سؤال آخر بأنه هل فعلنا اخرجت تلك الثورات المستعمر من كياناتنا العربية؟
عبيدا كثر يا استاذي الجليل في وطننا العربي
هؤلاء يحلو لهم القيد وافضل اليهم من الحرية كونهم رعاع أنعاج مهما لبسوا من ثوب وشهادة يستأنسون (يستأسدون) بها لا ليرفعوا نتاج علمهم برفع قيمهم الانسانية بل جبلوا كي يكونوا عبيدا حتى يقضي الامر
نعم الطائفية مرفوضة واستغلال الدين والتعنت السلطوي لهضم حقوق الآخرين مرفوض كذلك
إذا كان الموضوع هو إعلاء القيم السماوية والإنسانية الكبرى فان المنطق يقول بأن نضالات الشعوب من أجل تحقيق تلك القيم في الواقع المعاش لا يهمّها إن كانت الجهة التي تعتدي على تلك القيم هي من الخارج الاستعماري أم كانت من الداخل الاستبدادي الاستغلالي. إن الظلم هو الظلم سواءً أمارسه الحاكم الإنجليزي أو الفرنسي أم مارسته قبيلة متسلطة، أم مارسه مذهب طائفي متخلف أم عساكر سارقون للسلطة والحكم.
15معاني الحريه
صح كلامك يا دكتور لا يوجد في عقلية صنإع القرار السياسي امران هما تقبل الاختلاف والتعايش معه ولا يوجد مفهوم تداول سلمي للسلطه كل الدماء التي سالت كانت ضحية عنجهيه وتعنت السلطه في المسك بزمام الامور و رحلت كل معاني الحرية والمساواه والعدالة الاجتماعية واستقرت في قصائد الشعراء.
شكرا دكتورنا الكبير الذي أكن له كل الإحترام. فأنا أحد المتعطشين لقراءة كل ما تكتبه. وكم أعجبتني هذه الفقرة "انظر الى ليبيا واليمن والعراق ولبنان والسودان ودول مجلس التعاون والجزائر. لقد ضاعت أحلام الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة في جحيم الصراعات العبثية المجوجة". كلام كبير ولكن من الذي ضيعها؟ . (محرقي/حايكي)
هل نيأس؟
مقالك اليوم سيدي الدكتور صادم ولكن كلا. مادامت سيرة نهضة الحسين تنتشر في اقطارنا .فهي النموذج والمحرك الرئيسي للشعوب نحو الحرية ورفض الاستبداد