إن أقدم التشريعات التي حدّدت المسئولية الطبية، ما تضمنته شريعة حمورابي الذي حكم بلاد الرافدين في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وقد ضم هذا التشريع تسع فقرات تتعلق بأجور الأطباء وبالعقوبات التي تُفرض عليهم في حال وقوعهم في الخطأ. كما وضعت الأنظمة اليونانية نصوصاً لمعاقبة من يسيء إلى شرف المهنة أو يستغلها بجشع. واعتمدت واحداً من بينهم معروفاً بالمروءة والتجربة في الطب، وذلك لمراقبة أعمال الممارسين والنظر في شكاوي الناس منهم.
أما في الولايات المتحدة الأميركية، فقد أمرت بتكوين منظمة الأخطاء الطبية والسلامة منذ العام 1990، وقد توصلت تلك المنظمة من خلال تقاريرها إلى أن الولايات المتحدة تشهد ما يقارب 000/98 خطأ طبياً في السنة.
إلا أن ما يجدر ذكره في هذا الصدد، هو أن الولايات المتحدة وضعت أكثر من نظام لحماية حقوق المرضى وضمان حد أدنى من العناية. فعلى سبيل المثال وضعت نظاماً لحماية حق سرية المعلومات المتعلقة بالمريض، حيث وصلت قيمة التعويضات فيه لأكثر من خمسة ملايين دولار، والمطالع للواقع العملي في الولايات المتحدة بالنسبة للأخطاء الطبية يجد أنها نجحت من خلال أمرين، أولهما: سهولة تحديد أطراف النزاع، حيث يرفع المريض دعواه وفقاً لمسئولية المتبوع عن أعمال تابعيه على المستشفى وعلى الطبيب. وذلك الأمر من القواعد العامة بالقانون، والتي أجيزت من غالبية الدول من بينها البحرين.
ثانيهما: صرامة وفاعلية الأحكام الصادرة في هذه المسائل، حيث إن مبالغ التعويضات كبيرة حسب تقدير القضاة الذين من بين صلاحياتهم سحب التراخيص الطبية، إلا أنه حقيقة، هذا النظام نظام تقليدي مفاده أن النزاع يعرض على المحاكم التي تحدد لجاناً متخصصة لها رأي استشاري فحسب، وذلك يخالف المعمول به في كل من فرنسا والنمسا وألمانيا التي استلزمت عرض النزاع على لجان متخصصة لها رأي ملزم.
وأجد أن النظام الأميركي قد يكون الأفضل لسبب بسيط، وهو ضمان الحياد والاستقلال بالنسبة للنزاع، فاللجان المتخصصة قد تصطف مع المستشفى أو الطبيب لوجود علاقة أدبية أو علاقة تبعية بالمستشفى، كما أن التعويضات المقدرة كبيرة بمعنى أن فرضية جبر الضرر تكون واردة بصورة أكبر.
أما في البحرين ولوجود فراغ تشريعي ينظّم العلاقة ما بين الطبيب والمريض، يستلزم منا ذلك الرجوع لقانون العقوبات بالنسبة للمسئولية الجنائية (المادتين 342، 343)، اللتين تتحدثان عن الإخلال بما تفرضه أصول وظيفته وتسبب بخطئه في موت شخص أو المساس بسلامة جسمه.
أما بالنسبة للمسئولية المدنية أو الإدارية بحسب الأحوال، فإذا ما كان طرف النزاع تابعاً لأجهزة الدولة تكون المسئولية للأخيرة، وإذا كانت جهة خاصة كمستشفى خاص أو عيادة من العيادات تكون للأولى، كما أن التطبيق يكون بالرجوع للقواعد العامة في المسئولية العقدية واستلزام التعويض في حال ثبوت الخطأ، وتطبيق مسئولية المتبوع عن أعمال تابعيه إذا ما كان الطبيب يرتبط عمله بعلاقة تبعية مع المستشفى التابع له.
أما عن المسئولية التأديبية فإنها تتحدّد بموجب المادة 27 من القانون رقم 7 لسنة 1989 الصادر بشأن مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان بدلالة قانون التراخيص الطبية، علماً بأن من بين أهم المثالب في هذين التشريعين هو عدم إحاطتهما بترتيب دقيق لدرجات العقوبات التأديبية وما إلى ذلك.
ومن أهم الأمور التي تميّزت بها البحرين هي استحداث الهيئة الوطنية لتنظيم المهن والخدمات الصحية في العام 2009، لولا أن صلاحياتها مازالت محدودة وفعالياتها غير ظاهرة لعدم علم غالبية الناس بها.
ونذكّر القارئ الكريم أن من بين مهامها، أولاً: السماح للمواطنين بتقديم شكاوى بمواجهة الأطباء، وتقوم بعد ذلك بالاجتماع مع أطراف النزاع بهدف التحقق من الواقعة، ثم تقوم بعمل تقرير للجنة التراخيص الطبية لتقول الأخيرة كلمتها.
ثانياً: القيام بمساندة المحكمة المنظور بها النزاع في تحديد أعضاء اللجان الطبية المتخصصة في النزاع المطروح. فعلى سبيل المثال عندما تكون المشكلة المطروحة متعلقة بأحد أمراض الدم عندها تقوم الأخيرة بعد قيام المحكمة المطروح لديها النزاع بمخاطبتها بتعيين أطباء يحملون نفس التخصص ليباشروا دراسة موضوع النزاع، فيجتمعوا مع أطراف النزاع ليكتبوا تقريراً يُرسل إلى المحكمة المذكورة.
إلا أن تقاريرها لا تتمتع بالإلزام رجوعاً للقواعد العامة بقانون الإثبات، فللقضاء السلطة التقديرية في تلك المسألة، كما أنها قد لا تتمتع بقدر كبير من الحياد والاستقلال، لا لشيء إلا لكونها مكونة من أطباء أو ما تقوم بتشكيله من لجان طبية قد يرتبطون بعلاقة أدبية مع الأطباء المشكو ضدهم، أو بعلاقة عمل أو مصلحة مع إدارة المستشفى التي يعمل بها الطبيب المشكو ضده، عندها ستكون تقاريرهم تجافي أو أقل مصداقية من الواقع لحد كبير.
لذا؛ فإن سد الفراغ التشريعي بقانون ينظم العلاقة ما بين الطبيب والمريض، وشمول مواده بشكل صريح لحق اعتراض المريض على أحد أعضاء اللجنة المشكلة لبحث النزاع المطروح من قبله، لهو أمرٌ يقترب من مصداقية التقارير المعدّة.
كما أن التطور التكنولوجي سمح بالمراسلات غير المتعلقة بحدود الدولة، فبالإمكان مع ذلك الأمر أن يشترط بأن أحد أعضاء اللجان الطبية يكون أحد الأطباء المتخصصين من خارج البحرين.
كما بالإمكان وجود شرط لأعضاء اللجان الطبية المرتب إليها من قبل الهيئة بطلب المحكمة محل النزاع هو عدم مزاولة المهنة في فترة قيامه بإعداد التقرير لتقاعده مثلاً أو لعمله الأكاديمي، مع شرط وجوده السابق في العمل الطبي طبعاً.
باختصار شديد... أجد أن صراحة حق الاعتراض على أعضاء اللجان الطبية وبيان الشروط التي يجب أن يتمتع بها أعضاء اللجان ووجود رقابة على اللجان الطبية وغير ذلك من أمور، إذا ما أُوضحت بتشريع مفصل يوضح العلاقة بين الطبيب والمريض، سيكون الحال أفضل من الوضع الحالي.
ختاماً أخلص إلى بعض التوصيات التي أتمنى أن تؤخذ بعين الاعتبار، وذلك بغرض وضع صيغة قانونية في العلاقة ما بين الطبيب والمريض:
1 - سد الفراغ التشريعي الموجود حالياً بسن تشريع ينظم العلاقة ما بين الطبيب والمريض من حقوق والتزامات وعقوبات، والآلية الإجرائية للشكاوى والمسئوليات (الجنائية، التأديبية، المدنية) المترتبة من جراء الأخطاء المرتكبة.
2 - زيادة الوعي القانوني للممتهنين بالطب باستحداث مقررات إلزامية لتوضيح الحقوق والواجبات لكل من الطبيب والمريض، وبيان المسئولية بشكل دقيق ودراسة التشريعات المتعلقة بذلك.
3 - إلزام أصحاب المنشآت الطبية بالتأمين ضد المسئولية عن الأخطاء الطبية.
4 - توسيع صلاحيات واختصاص الهيئة الوطنية لتنظيم المهن والخدمات الصحية، وإعادة النظر في قانونها بحيث تكون مرجعية قانونية طبية مختصة مستقلة، وإمكانية فرض الرقابة على قراراتها بطريق واضح للكافة، فيكون للمواطن الحق في الطعن على قراراتها.
5 - استحداث لجنة رقابية بالهيئة الوطنية العامة لتنظيم المهن والخدمات الصحية، ملزمة بتقديم تقارير دورية عن كل مستشفى من المستشفيات لصلاحيتها في الزيارات الميدانية للمستشفيات ومسئوليتها في منح شهادة جودة كل ربع سنة، بعد بحث الجودة البشرية والتقنية بكل مستشفى من المستشفيات.
6 - إنشاء لجان طبية قانونية دائمة بكل مستشفى من المستشفيات الموجودة بالبلاد، مهمتها الرقابة على أعمال الأطباء واستيضاح العلاقة بينهم وبين مرضاهم، وتلقي الشكاوى والبحث فيها، وإرسال تقارير أولية للهيئة الوطنية لتنظيم المهن والخدمات الصحية بشكل دوري لتقوم الأخيرة ببحث الحالات والشكاوى أولاً بأول.
7 - رسم أهم معالم العلاقة بين المريض والطبيب بإلزام كل مستشفى عام وخاص بوضع «ميثاق خدماتي»، ووجود كتيبات وإرشادات متخصصة بكل عمل طبي بمرجعية طبية معتمدة، لضمان وعي المواطن بحقوقه على غرار المستشفيات في الدول المتقدمة.
8 - توفير التقنيات والكوادر البشرية والتكنولوجيا لضمان السلامة البشرية بجميع المستشفيات العامة والخاصة وفرض عقوبات على مخالفيها.
إقرأ أيضا لـ "نفيسة دعبل"العدد 4053 - الجمعة 11 أكتوبر 2013م الموافق 06 ذي الحجة 1434هـ
شكرا
هل هناك شيء قانوني أصلا بهذه الوزارة .. الأخطاء الطبية ليست وليدة لحظتها بل هي نتيجة فساد مشترك ومتراكم .. عند لحظة ما يؤدي لكارثة والأمثلة أكثر من أن تحصى ... وأحيانا يكون ضحيتها المريض والطبيب الذي تصادف وجوده هذه اللحظة والمجبر على التعامل مع كم هائل من الاهمال المتراكم والتعامل مع المريض في مثل هذه الظروف القاهرة ..
بارك الله
سلمت يدك ، كم من جميل قرأت مقالاتك أستاذه
واحب قرأت مقالاتك التي تحمل
كم كبير من المعلومات القانونيه