يصر المسئولون في الادارة الاميركية على ان الصورة في العراق افضل مما تعكسه وسائل الاعلام. ويقولون ان الوضع يتحسن يوميا. الناس صاروا اكثر حرية. الوضع الامني يتحسن. البنية التحتية تتحسن. المدارس تفتح ابوابها. المستشفيات يجري تحديثها، والجسور يعاد اعمارها ولكن وسائل الاعلام لا تنقل سوى صورة الجسور المحطمة.
وفي مناسبة مرور ستة اشهر على غزو العراق حرص الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر على التحدث بإسهاب عما أسماه بـ «التقدم الكبير» الذي حدث. وعدد بريمر تلك الإنجازات وذكر ما حدث من تطور في قطاع الطاقة الكهربية، وقال «يكفي القول بأن الناس ينعمون الآن بالتيار الكهربائي المتواصل لمدة 20 ساعة يوميا بدلا من 8 ساعات خلال الفترة الماضية». وتحدث عن تطهير نحو 4 آلاف من إجمالي 27 ألف قناة وممر مائي خلال الأشهر الماضية في أنحاء مختلفة، بالإضافة إلى التحسن الذي طرأ على مياه الشرب والصرف الصحي إلى جانب نواح أخرى من الخدمات التي قدمت على حد زعمه للشعب العراقي.
وتطرق بريمر إلى «حرية الصحافة»، وأشار إلى أنه يوجد حاليا نحو 270 صحيفة ومجلة في العراق في مقابل ما لا يزيد عن 10 صحف ومجلات كان مسموحا لها بالنشر إبان حكم الرئيس السابق المخلوع. إلا أنه شدد في المقابل على أن «هذه الحرية لها ضوابط». وعن ما طرأ من تحسن على الدبلوماسية العراقية قال بريمر إن وزارة الخارجية العراقية الجديدة «أعادت فتح نحو 34 سفارة في أنحاء مختلفة من العالم، كما تمكن مجلس الحكم من إقامة علاقات مع منظمات دولية وإقليمية مختلفة».
وتحدث ايضا عن تعيين 60 ألفا من جنود الأمن المسلحين -بعضهم بصفة مؤقتة - حتى الآن «ليحلوا محل قوات الجيش والشرطة اللذين تم حلهما من قبل»، وعن مشروعات التنمية الكبرى في العراق في الفترة الماضية أوضح ان «هناك 140 مشروعا على وشك الانتهاء من بينها 40 مشروعا على الأقل تم إسنادها لشركات عراقية»، مشيرا إلى أن شركة (بكتل) العملاقة هي الشركة الأميركية الوحيدة التي أسند إليها العمل في تلك المشروعات، وأن الشركة قامت بتشغيل 40 ألف عراقي في المشروعات التي أسندت إليها».
بالنسبة إلى الكثير من العراقيين، لا تتم المقارنة وفق هذه الطريقة، وانما هم يقارنون بين اوضاعهم في ظل ديكتاتورية صدام المقيتة واوضاعهم الحالية. ويقول العراقيون إنه بعد حرب الخليج الثانية عندما قصفت مباني الاتصالات توقفت الخدمات التليفونية ولكن الحكومة العراقية آنذاك نجحت في إعادة تشغيل خطوط الهاتف خلال شهر واحد بعد الحرب. بينما حتى الآن لم تتم ازالة ركام مباني الاتصالات والبدالات التي قصفت في الحرب الاخيرة. ومع ان الكهرباء في الحرب الاخيرة لم تقصف، فانها الان اسوأ مما كانت عليه بعد ثلاثة اشهر من حرب 1991 التي قصفت خلالها محطات توليد الكهرباء في كل البلاد واعاد صدام اعمارها خلال فترة لم تتجاوز الأشهر الثلاثة.
واذا كان معظم العراقيين رغب في التخلص من مساوئ الديكتاتورية وخنق الحريات، والبوح علنا بانتقاداتهم لسياسات النظام المخلوع خوفا من كتبة التقارير التي قد تجعلهم في متناول اجهزة النظام الامنية المتعددة، فإن الخشية هذه زالت لتحل محلها خشية اقسى وهي موجودة في كل ساعة وفي كل مكان. فالبيت يمكن ان تداهمه عصابة تقوم بالخطف او السرقة او القوات الاميركية بحثا عن اسلحة او مال، والخروج الى الشارع اضحى مجازفة كبرى خشية التعرض لحملات التسليب، او القتل على ايدي القوات الاميركية التي لمجرد «الشعور» بالخطر. وهذا ما يحدث يوميا إذ يسقط العشرات من العراقيين صرعى للرصاص الذي يطلق من مجهولين او من قوات الحلفاء.
ويكفي ان الحواجز الاميركية يمكن لها ان تقتل او تعتقل أي شخص لمجرد الاشتباه. فضلا عما يلحق العراقي اذا ما شنت هجمة على القوات الاميركية، تلك الهجمات التي احيانا لا تكون مبرمجة ولا تتفادى اصابة ضحايا ابرياء. وفضلا عن كل ذلك هناك مسألة الاختناق المروري والشعور بالمهانة. فحواجز الطرق في كل مكان في بغداد إذ تقوم القوات الأميركية باحتلال بعض الشوارع أو الجسور. وفي أحد الأيام تقوم هذه القوات بفتح الجسر أو الشارع وفي اليوم الثاني تغلقه. وفي كل مكان ترى شبانا أميركيين لا تتجاوز أعمارهم 18 أو 19 أو 20 عاما يوجهون الأوامر باللغة الإنجليزية إلى العراقيين مثل «أخرجوا من هنا أو افعلوا كذا أو افعلوا هذا». وفضلا عما يمثله ذلك من مهانة فإن العراقيين قد لا يفهمون الأمر (اللغة) فتكون النتيجة إطلاق الجنود النار عليهم.
واذا كان ضيق الحال هو ما كانت تشكو منه غالبية سكان العراق، فان «التحرير» الذي وعد العراقيين بتحسين اوضاعهم الاقتصادية القى بنحو 80 في المئة من قوة العمل في البلاد الى رصيف البطالة. وحتى الحصة التي كانت توزع بالبطاقة التموينية طيلة سنوات الحصار لم يجر تحسينها بل قلل بعضها في حين وزعت مواد فاسدة في اطارها.
إلى ذلك، هناك انتشار لظواهر اجتماعية لم تكن موجودة قبل الاحتلال مثل تعاطي المخدرات والمشروبات الروحية والافلام الاباحية التي غزت الاسواق ودور السينما من دون رقابة. وهذه الظواهر في مجملها صارت مصدرا لقلق اجتماعي كبير. فلم يشهد العراق انتشارا لظاهرة تعاطي المخدرات والاتجار بها كما يشهده الآن. وتشير المعلومات الى ان كميات كبيرة من المخدرات والسجائر الضارة عبرت الحدود العراقية خلال الاشهر التي تلت الغزو، ووصلت كميات منها الى المواطن الذي تشجعه الظروف على الاقبال عليها.
وفي موازاة ذلك، يبدي عراقيون خشيتهم من ان تقوم سلطات الاحتلال بتحويل بلادهم الى (مكب) لنفايات العالم، وذلك بعد ان لفتت قضية شحنة الاغنام الاسترالية المصابة بالامراض الانتباه الى أن العراق يمكن ان يستقبل أنواعا مختلفة من الاغذية الفاسدة في ظل غياب رقابة حقيقية على غذاء المواطن وسلامته الصحية.
بل ان بعض الاوساط العراقية صارت فاقدة الامل بالمستقبل ويتحدث العراقيون لا فقط عن استمرار عمليات نهب الآثار العراقية التي بدأت مع ساعات الاحتلال الاولى للعاصمة العراقية بل واتساع عمليات النهب لتطال الاعضاء البشرية والاطفال العراقيين. وبحسب معلومات تنتشر بين العراقيين فان جنود الاحتلال يقومون بنقل جثث الموتى العراقيين الى مشارح ضخمة اعدت خصيصا لسرقة الاعضاء البشرية. وتضيف المعلومات انه بعد سرقة الاعضاء البشرية يقوم افراد هذه العصابات بدفن جثث الموتى في مقابر جماعية في الصحراء. في حين تنتشر شائعات عن مافيا متخصصة تقوم بسرقة الاطفال وتهريبهم الى الخارج وبيعهم في اسواق الرقيق.
وبالنسبة إلى المتحمسين للحرب باعتبارها انجزت اهدافا كبرى، فان الشكوك داهمت حماستهم بعد مرور ستة اشهر على «تحرير» العراق، فقد عادت الاسئلة لتطرق الرؤوس بمزيد من الشكوك. وهل العراق يسير على طريق التعافي والاستقرار والديمقراطية؟
وتتعدد الاسئلة وتتشعب؛ فهل الارهاب يمر بمرحلة من الافول؟ ومشاعر العداء لكل ما هو أميركي مازالت موجودة، بل ووصلت إلى حدود لم يسبق لها مثيل من قبل. وهل السلام في «الشرق الاوسط» صار قريب المنال؟ بينما تهدد «اسرائيل» بالعدوان على سورية ولبنان وايران في ظل توحد للموقفين الاميركي والاسرائيلي في المنطقة.
هذه الاسئلة وما تحمله من شكوك بدورها تبدد حماس اولئك الذين رحبوا بالحرب
العدد 405 - الأربعاء 15 أكتوبر 2003م الموافق 18 شعبان 1424هـ