يتمتع الكاتب والصحافي فهمي هويدي بمكانة مهمة وتأثير واسع النطاق، خصوصا لدى القراء ذوي التوجه الإسلامي. فالرجل يتمتع بقدرة ملحوظة في فن الكتابة. كما أنه أسهم ضمن ما سمي بالتيار الوسطي الذي يتزعمه الشيخ يوسف القرضاوي بعد وفاة المرحوم محمد الغزالي في تطوير كثير من القضايا ذات الصلة بالفكر الإسلامي والحركة الإسلامية.
وسبق لي أن تعرفت على الرجل من قرب، واشتبكت معه في أكثر من قضية ومناسبة، لكن ذلك لم يؤثر على دماثته، وصبره على بعض الآراء التي ربما بدت له «خروجا عن الثوابت» أو «تحاملا غير مبرر على الحركات الإسلامية» مع ذلك استمر اهتمامي بما يكتب، وأعترف له بالفضل في توسيع دائرة معرفتي بعدد من القضايا منذ أن كنت أتابع سلسلة مقالاته في «مجلة العربي». ومن هذا المنطلق أريد أن أناقشه في مقال صدر له أخيرا في أكثر من صحيفة (مثل «الشرق» القطرية بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول )، تحت عنوان «نقطة نظام».
هذا المقال لفت انتباهي لأمرين على الأقل. الأول لكونه يتعرض للقاء تم في باريس خلال أغسطس/ آب الماضي، وكنت بمعية جمال البنا من المشاركين فيه. وثانيا تعرضه لعدد من المسائل المهمة التي تحتاج إلى توقف ونقاش.
بدا واضحا من الأسلوب الانفعالي التي كتب به المقال أن هويدي نفذ صبره من كثرة الحديث هذه الأيام عن «تجديد الخطاب الديني»وخصوصا بعد 11 من سبتمبر، والضغوط الأميركية العلنية التي تمارسها مختلف الأجهزة الأميركية على الحكومات والمؤسسات الدينية والنخب من أجل إنجاز هذه «المهمة» وفق مصالحها ورؤيتها للمسائل. ومن حقه أن ينزعج ويعبر عن مخاوفه من تزايد احتمالات الخضوع لهذه الضغوط. ولعلمه فإن الذين شاركوا في لقاء باريس كانوا واعين لهذا الجانب، وتعرضوا له في ورقاتهم ونقاشهم. لكن هل يكفي هذا التخوف للهجوم على ذلك الاجتماع والتشكيك في خلفياته ونوايا أصحابه أو الذين دعوا إليه؟
علاقة الجغرافيا بالفكر
استند هويدي في هجومه على عدة طعون، سنستعرض بعضها، ونحاول التعليق عليها وفق أخلاقيات الحوار التي أشار إليها، ويجب فعلا الالتزام بها.
أول اعتراض لفت الانتباه يتعلق بمكان انعقاد اللقاء. فاختيار باريس بدا له «أشبه بنكتة» وعلق على ذلك ساخرا «إذ وجدت أن فرنسا الكاثوليكية قد احتضنت لقاء لتجديد الخطاب الإسلامي. ومن عباءة ذلك اللقاء أطلت علينا بشارة التجديد في ثنايا (إعلان باريس)». والحقيقة أنني استغربت من توقف الكاتب عند مسألة اختيار المكان. إذ بقطع النظر عن الأسباب العملية واللوجستيكية التي قد تكون دفعت بالمنظمين إلى اختيار باريس لعقد اللقاء، فإن أوروبا وأميركا يحتضنان منذ فترة طويلة أبرز الندوات والمؤتمرات الخاصة بالإسلام والمسلمين.
إضافة إلى أن هذا الربط بين اللقاء وفرنسا الكاثوليكية، من شأنه أن يحيل القراء الإسلاميين إلى نقاط التباس، قد تغذي لديهم «ثقافة المؤامرة» التي حاربها الكاتب في كثير من كتبه ومقالاته. فعلاقة الجغرافيا بالفكر والسياسة تغيرت بشكل جوهري، وقد سبق لباريس على سبيل المثال أن احتضنت من قبل رواد الإصلاح وفي مقدمتهما الأفغاني وعبده، كما تحتضن العواصم الغربية اليوم آلاف اللاجئين من الإسلاميين وغيرهم.
إذا عرف السبب هل يبطل العجب؟
الاعتراض الثاني يبدو أكثر أهمية. وصاغه بالطريقة الآتية «وقع النكتة تراجع حين لاحظت أن الاتحاد الأوروبى هو الذي مول اللقاء، وأن أمر انعقاده رتبته منظمة مصرية ممولة بدورها من الخارج (يقصد مركز القاهرة لحقوق الإنسان)، بالتعاون مع منظمتين أوروبيتين (الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الانسان)، وهو ما دعاني إلى السؤال على الفور: ما شأن هؤلاء بالموضوع، ومنذ متى كانوا غيورين على الإسلام وحريصين على تجديد خطابه؟ وهل كان يمكن أن يتم اللقاء لولا انه يقف على الأرضية الأوروبية ويستجيب لأولويات الأجندة الأوروبية والأميركية؟».
من الناحية النظرية يمكن اعتبار هذه الأسئلة مشروعة، خصوصا في هذه الظروف الدولية الحالكة، لكن وضع «لقاء باريس» في سياقها يمكن أن يزيل كثيرا من هذه الشكوك والالتباس. فذلك غير مبرر إطلاقا للقول بأن «عقد لقاء من ذلك القبيل في العاصمة الفرنسية، وبتمويل من الاتحاد الأوروبي يعد سببا آخر للطعن في شرعيته. ويبرر سحب الثقة منه».
لا يخفى أن المنطقة العربية أخذت تشهد منذ أواسط السبعينات ميلاد ظاهرة جديدة وإيجابية، تتمثل في عدد متزايد من منظمات حقوق الإنسان. هذه المنظمات لم يشارك في تأسيسها إسلاميون أو مهتمون بقضايا الثقافة الإسلامية. كان هؤلاء مشغولين بقضايا ومعارك أخرى. فالذين بادروا بتأسيسها ينتمي معظمهم إلى التيار الليبرالي بمفهومه الواسع، ثم التحق بهم مناضلون قدموا من الساحة اليسارية، بعد أن قام الكثير منهم بمراجعات سياسية وفكرية. وعلى رغم أن هذه المنظمات دافعت عن المساجين الإسلاميين في كثير من المناسبات، إلا أنها بقيت متمسكة باختلافها معهم في معظم القضايا الجوهرية، كما حافظت في الغالب على طابعها العلماني من حيث البناء الأيديولوجي لمنظومة حقوق الإنسان.
وبما أن الإسلام حاضر بقوة، ليس فقط داخل العالم الإسلامي ولكن أيضا على الصعيد الدولي، أصبح من غير المنطقي أن تتجاهل الحركة الحقوقية العربية بالذات وكذلك العالمية دور الدين في المنطقة. من هنا بدأ التفكير قبل 11 سبتمبر في تنظيم سلسلة من اللقاءات التشاورية، هدفها تنضيج فكرة مد الجسور بين طرفي المعادلة وتطوير آليات الحوار بين الأشخاص وليس (التنظيمات) المستعدين لذلك والذين اقتنعوا بأهمية الإقدام على خطوة من هذا القبيل. لأنه في المقابل هناك من داخل صفوف نشطاء حقوق الإنسان من يرى في مثل هذا الجهد عملا عبثيا من شأنه أن يحدث أضرارا بمنظمة حقوق الإنسان، ويؤدي حسب اعتقادهم إلى «تنازلات يستفيد منها الإسلاميون».
أما لماذا التركيز على مسألة «تجديد الخطاب الديني»، فذلك أمر يبدو بديهيا، لأن التفاعل مع أفكار ومبادئ حقوق الإنسان يستوجب بالضرورة الانطلاق من نظرة مستنيرة للإسلام، تتجاوز تلك القطيعة المعرفية التي لا يزال يعيشها عدد واسع من المتشددين في الساحة الإسلامية على الصعيدين الحركي أو الثقافي. كما يدرك هويدي أنه على رغم أهمية الجهود التي بذلتها أطراف كثيرة من بينها «التيار الوسطي» الذي ينتمي إليه، فإن قضايا شائكة وحارقة لاتزال معلقة في الفكر الإسلامي، وأن عملية التجديد لم تتوقف، ولا يمكن أن تتوقف لأنها جزء من طبيعة الدين وحركة التاريخ.
صحيح، أن حضور التيار العلماني كان قويا، وتمت ملاحظة ذلك عند النقاش، كما تمت التوصية بضرورة تشريك أقوى وأكثر تمثيلية لكتاب ومثقفين ينتسبون لمختلف مدارس الفكر الإسلامي بما في ذلك القريبين من الحركات الإسلامية. وأن هذه التوصية لم تجد صدى أو اعتراضا من المشاركين.
الإسلام لم يعد يهم المسلمين وحدهم
أما لماذا يهتم الاتحاد الأوروبي بقضية تجديد الفكر الديني عند المسلمين؟ فأعتقد أنه بعد كل ما حدث من تطورات خطيرة منذ أن رفع تنظيم «القاعدة» الغطاء، لم يعد بالإمكان مطالبة صانعي القرار في العالم بالبقاء على الحياد في قضايا تعنيهم بشكل مباشر، وتتفاعل داخل عواصمهم وتحدث تصدعات في مؤسساتهم. اليوم لم يعد مصير الإسلام يخص فقط المسلمين أو الفقهاء وحدهم. إن للموضوع تداخلاته الأمنية والثقافية والسياسية والاستراتيجية.
لهذا تجري حاليا في كل الدول الغربية تقريبا مراجعات لإعادة تشكيل العلاقة بالإسلام والجاليات الإسلامية ومراكز القرار في كل العواصم الإسلامية. لا يعني ذلك تبرير أي شكل من أشكال التدخل، ولكن فقط حتى نفهم أن الأرض التي كنا نقف عليها من قبل تغيرت تضاريسها تماما. لهذا أصبحت وزارات الداخلية الأوروبية (فرنسا مثلا) تحرص على أن يكون للمسلمين هياكل رسمية تنظم وجودهم بشكل ديمقراطي، ومساجد ممولة من قبل الدولة مثلها مثل الكنائس والبيع. كما أصبحت الحكومات الغربية مهتمة بتكوين الأئمة والوعاظ حرصا على تحقيق التناغم بين العلمانية القائمة عليها الحياة الغربية والإسلام كدين ضمن بقية الأديان. وفي هذا السياق يجري منذ فترة التأسيس لفقه إسلامي أوروبي، أو على حد تعبير البعض «إسلام أوروبي» لأن الأمر يتجاوز الإطار الفقهي ويفرض رؤية مختلفة لمجتمعات مغايرة.
احترام الدين واجب
الاعتراض الثالث الذي ركز عليه الكاتب مطولا قوله: «الأسوأ أن نفرا من الغلاة استخدموا منصة التجديد لتسويغ التبديد وأحيانا التجديف، الأمر الذي يتجاوز الإساءة للدين إلى إثارة الفتنة، وإشغال الناس بجدل يصرفهم عن تحديات اكثر جسامة تهدد الأمة من كل صوب». واعتبر أن «الخوض في مسألة تجديد الخطاب الديني له شروط، أهمها ان يكون للمشاركين في الحوار «شرعيتهم». والحد الأدنى لتلك الشرعية أن يكون هؤلاء على صلة بالموضوع أو انتساب له من أي باب». واعتبر أنه «من العبث الذي يرقى الى مستوى العجب ان يتحول غير ذوي الصلة او الصفة، بل ان يصبح المشتبكون مع الخطاب الديني، متحدثين رئيسيين في أمر تجديده».
من حيث المبدأ لا خلاف على القول بأن احترام الإسلام والإيمان به والانطلاق من آلياته شروط دنيا لاكتساب شرعية الخوض في مسألة تجديد الخطاب الديني. لأنه من دون ذلك يصبح الأمر أشبه بالعبث.الاستناد على «التجديد» بنية تقويض الدين تفكير قصير النظر وجهد لا طائل من ورائه. لكن هل الانطلاق من ذلك لمنع إقامة حوارات مفتوحة بين المتدينين وغيرهم، أو بين من يؤمنون بالدور الاجتماعي والسياسي للإسلام وبين من يعتقدون بضرورة الفصل بين الدين والدولة؟
إن الغلو في تحديد الشروط المسبقة لإدارة الحوار، يخشى أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الوقوع في الإقصاء والتكفير. فكثير من القضايا الخلافية المطروحة حاليا تستوجب النقاش المعمق والحر من أجل توضيحها على الأقل، لأن الكثير منها مطروح بدوره داخل دائرة الفكر الإسلامي، على رغم عناد البعض أو عدم اعترافهم بذلك. والهدف من هذا التعقيب هو المشاركة في إخراج العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين من مأزق تاريخي، كلما بذلت جهود من أجل تجاوزه إلا وتجدد الاشتباك ليعيد الصخرة من جديد إلى سفح الجبل. من هذه الزاوية اعتبرت أن اللقاء الذي تم في باريس على رغم بعض نقائصه واختلافي مع الكثير ممن شاركوا فيه، يشكل خطوة في الطريق الصحيح يجب دعمها وتطويرها، ولم أستشعر في الإعداد إليه أو الأجواء الحوارية الإيجابية التي سادته ما يشكل «مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين»
العدد 405 - الأربعاء 15 أكتوبر 2003م الموافق 18 شعبان 1424هـ