لصعصعة بن صوحان العبدي حكاية تستحق الرواية. ليس لأنه خطيب بليغ، من سادات عبد القيس... ولا لأنه من أسرة آل صوحان التي تشربت محبة آل بيت النبي (ص)، بل لأنه يمثل الدليل الأوضح على «وضاعة» تعاطي الحاضر مع الماضي، والسياسة مع التاريخ، وكيف تتدخل «الأحقاد» في تدمير الإرث الروحي والثقافي لوطننا الغالي.

من أخطر المسائل هي أن يترك التاريخ نهباً لمن ليسوا أهلاً لكتابته، والأخطر أن يتم القبول بنتائج الجهود الفكرية المبذولة وبآلياتها المشبوهة وغير الأمينة في محاولة السيطرة على الذاكرة التاريخية. ومن هذه الزاوية فإن التعدي المادي على مقام ومسجد صعصعة الواقع في قرية «عسكر» على الساحل الشرقي في جنوبي جزيرة سترة يخرج عن كونه جريمة «جنائية» هدفها الازعاج المذهبي، بل هناك جهد فكري ينحط الى مستوى التدمير «المعنوي» يستهدف تزوير تاريخ المقام وهوية صاحبه والمنطقة التي دفن فيها.

أخبار صعصعة كثيرة جداً في كتب التراث والأدب والتاريخ، وتروى عنه أخبار مطولة، حتى أن أبواسحاق الحصري القيرواني (ت 453هـ) عندما وضع كتابه الذائع (زهرة الآداب وثمرة الألباب) قال «ولم أذهب في هذه الاختيار الى مطولات الأخبار، كأحاديث صعصعة بن صوحان وخالد بن صفوان ونظائرهما» لكثرتها وطولها.

ينتمي صعصعة بن صوحان الى قبيلة «عبدالقيس» من «ربيعة»، أما آل صوحان فرأسهم والد الصحابي زيد بن صوحان، واخوته صعصعة، وسيحان، وعبدالله. وكان صوحان سيداً مطاعاً في قومه ورئيساً نافذ القول فيهم. أما زيد وسيحان فقد استشهدا في موقعة الجمل عام 36هـ. وكان سكن العبديين في البحرين مع أبناء عموتهم «بكر بن وائل»، غير أن لجماعات من هذه القبيلة هجرات الى عمان قبل الاسلام، ومنهم صعصعة وأخوه زيد، فقد عرف انهما من قاطني الكوفة بالعراق زمن الخلافة الراشدة. أما صعصعة فكان بداية ظهور الاسلام من النازحين الى عمان (سالم النويدري، أعلام الثقافة الاسلامية).

عرف ابن صوحان بولائه العميق حتى عُدّ من خلّص أصحاب الامام علي بن أبي طالب وشهد معه مواقعه كلها حتى نفاه المغيرة بن شعبة الى الجزيرة بأمر من معاوية بن أبي سفيان فعاد الى بلاده البحرين، حيث توفي ودفن في هذا موطن أسلافه. وفي الأعلام للزركلي أن وفاته سنة 56هـ وله من العمر سبعون عاما، وكان قد ولد في دارين قرب القطيف سنة 24 قبل الهجرة.

الغريب أن هذا المعلم الديني والروحي الذي يعد الأهم في مملكة البحرين يعاني اليوم من الاهمال المريع عقب سلسلة هجمات تخريبية مقصودة، ففي العام 2005 شهد المسجد اعتداء آثماً، تزايدت بعدها وتيرة الاعتداءات بدءاً من مارس/ آذار 2011 لقد سجلت أكثر من ثلاثة اعتداءات دُمرت فيها ممتلكات المسجد وتعرض لتخريب كامل وسط صمت رسمي مطبق!

المسجد الذي يُعد من أبرز معالم الحياة الروحية في البحرين عوض أن يضع قطاع شئون السياحة بوزارة الثقافة وهو الجهاز الرئيسي المسئول عن التسويق، والترويج للبحرين «كبلد حضاري متميز بالحيوية والنشاط الإنساني المتنوع والمنفتح على ثقافات العالم» يترك مرتعاً للقطط والكلاب السائبة بعد سرقة مقتنياته وتدمير مرافقه!

ومن المعروف تاريخياً أن قرية عسكر، كانت موطناً لأهالي قرية المعامير، يقول المؤرخ الشيخ علي البلادي (ت 1922م)، في ترجمة الشيخ علي العسكري من أعلام القرن العاشر: «والعسكر قرية من قرى البحرين في طرفها الجنوبي، وهي الآن خراب غير مسكونة – قبل أن تسكن من غيرهم - وقرية المعامير حدثت بعد خرابها وأهلها أهلها». (أنوار البدرين). ويعدنا الشاب جاسم حسين صاحب موقع (سنوات الجريش) بكتاب سيصدر قريباً يحكي طرفاً من تاريخ قرية «عسكر الشهداء» وقصة هجرة أهالي عسكر الى قرية المعامير.

يذكر المؤرخ النبهاني (ت 1950): «ويروي أن المشهد عند أهل البحرين أن من خصائص قرية عسكر عدم دخول الطاعون فيها، ويعدونها كرامة لصعصة بن صوحان رضي الله عنه. وفحص عن ذلك فلم يسمع منذ سكنتها العرب أن أحداً مات بها مطعوناً قط. والله يختص برحمته من يشاء».

إثر أحداث فبراير/ شباط 2011 سعت بعض الأبواق الإعلامية الى ترويج شائعة مفادها أن المساجد التابعة لادارة الاوقاف السنية تتعرض لاعتداءات متكررة على خلفية الغليان الطائفي المندلع في حينه، وكنتُ أتابع الموضوع مع مسئولي إدارة الاوقاف السنية في سياق التغطية الاعلامية الشاملة التي حرصت عليها الصحافة، لكن هؤلاء المسئولين الذين كانوا ينفخون في رماد هذه الشائعة لم يطرحوا دليلاً مادياً واحداً على صدق هذه الاعتداءات المزعومة. ولم تمهلنا الحياة سوى أسابيع حتى حدث فتنة «تهديم المساجد» فسكتت الأصوات وسكنت الأنفاس!

الى الغيارى الذين هزتهم شائعة استهداف المساجد... مسجد صعصعة بن صوحان العبدي يتعرض للتخريب والنهب فماذا انتم فاعلون؟