لسنا بصدد تقويم صواب قرار مقاطعة انتخابات مجلس النواب أم خطأ ذلك القرار. فهذه مسألة قد تستفز الجمعيات السياسية المقاطعــة أو قد لا يتقبلهـــا بعض قياداتهـــا التي نكنّ لها التقدير والاحتــرام لإخلاصها للحركة الوطنيــة البحرينيـــة، وما قدمته لها من تضحيات وما أبدته من صمود ومثابرة.
ولكن المسألة التي نبحثها هنا هي: مرحلة ما بعد المقاطعة، ومدى تأثر الساحة البحرينية بقرار المقاطعة، وانعكاسات ذلك على الحركة الوطنية البحرينية وعلى مسيرة الإصلاح والتنمية في مملكة البحرين.
وهنا لابد لنا من تسجيل الملاحظات الآتية:
1- إن قرار المقاطعة كانت له تأثيراته السلبية على الحركة الوطنية والجمعيات السياسية نفسها أكثر من تأثيراته على مجلس النواب وعلى النظام السياسي. فقد أدى هذا القرار إلى ابتعاد الجمعيات المقاطعة عن الملعب السياسي الفاعل إلى الملعب السياسي الظل. فأصبح دورها هامشيا لا يتعدى إصدار بيانات الاستنكار وتنظيم الندوات السياسية والمسيرات ورفع العرائض الشعبية. وهي الأدوار التي كانت التيارات السياسية تمارسها قبل التوافق الشعبي على تفعيل الميثاق، ولكنها الآن فقدت الكثير من الحضور الجماهيري وحماسه. فقد افتلّت كثير من النخب والجماهير وابتعــــدت عن ساحــــة الحركة الوطنية وصارت تملّ من الإيقاع القديـــم، أو صارت تخشى أن تنجرف معها فتسقط في هاوية ترجعها إلى المربع رقم واحد.
بعبارة أخرى، أدى قرار المقاطعة إلى ابتعاد الجمعيات المقاطعة، قليلا أو كثيرا، عن الملعب الذي يتواجد فيه حاليا غالبية الجماهير واللاعبون الأساسيون في الحراك السياسي البحريني، وانعزالها تدريجيا عن هذا الملعب الرئيسي. هذه الحال يعترف بها الرموز السياسيون أنفسهم، إلا أنهم يحتفظون بتفسيراتهم وخصوصا عن أسبابها ونتائجها.
2- قرار المقاطعة لم ينته فعلا مع نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2002 كما اعتقدنا جميعا. فنحن نزعم أنه بدأ في أكتوبر وتزايد بدرجات وإيقاعات متزايدة وصلت إلى حد التصعيد والاستفزاز للطرف الآخر. بل أدى هذا القرار إلى اصطباغ غالبية مواقف الجمعيات السياسية المقاطعة بصبغة المقاطعة وانسحابها عليها. فقد كان الهمّ الأكبر في مواقف هذه الجمعيات هو إثبات عقم البرلمان، وضعف نوابه وأعضائه، وعدم قدرته على إصدار تشريعات مجدية، وإثبات أن الحكومة والنظام السياسي متحالفان ضد الحركة الوطنية وضد المطالب الشعبية. هذه الحال، أدت إلى انشغال الجمعيات المقاطعة بمسائل أقل درجة من الاهتمامات الوطنية الكبرى المتعلقة بكشف الفساد الإداري والمالي، فتوجهت نحو انتقاد مكافآت النواب، بدلا من أن تبادر بطرح: برامج عملية لمعالجة البطالة والتجنيس وتطوير النمو الاقتصادي، وطرح حلول للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المجتمع. كما أفضت إلى ردود فعل سياسية متباينة، وأدت إلى مزيد من التعكير في العلاقة ما بين هذه الأطراف، واقترابها أكثر فأكثر من حال التصعيد والاستفزاز، قريبا من المربع رقم واحد.
وفي الضفة الأخرى، أدى ذلك إلى فزعة رسمية استهدفت إثبات جدارة وكفاءة البرلمان وآلياته في المحاسبة والمساءلة، واهتمت بتوفير المكانة اللائقة والتميز الاجتماعي للنواب.
بعبارة أخرى، انفصم المجتمع البحريني إلى تيارين رئيسيين بسبب قرار المقاطعة: فتيار يبارك ويدعم المشروع الإصلاحي ويتسامح معه ويستبيح له الأعذار على رغم تباطئه وتزايد التحديات التي يواجهها... وتيار يشكك في المشروع الإصلاحي وينتقد مؤسساته وآلياته ولا يغفر له خطواته الأولى ويتجاهل إنجازاته ولو كانت متواضعة.
3- قرار المقاطعة أدى بالحركة الوطنية إجمالا، وبالجمعيات السياسية المقاطعة تحديدا، إلى دخولها في إشكاليات جديدة، أزعم أنها لم تكن في حسبانها. فقد تشوشت حساباتها واضطربت استراتيجياتها وتكتيكاتها. فهي تدعم المشروع الإصلاحــي ولكنها أيضا لا تعترف بأهم مؤسساته (المجلس الوطني) وترفض التعامل مع أعضائـه المعينين أو نوابه المنتخبين، علما بأن المنتخبين جاءوا تعبيرا عن رغبة ما لا يقل عن نصف الشعب البحريني الذين انتخبوهم. وفي حين ترفض الجمعيات المقاطعة التعديلات الدستورية وآلياتها وتشك في قدرتها على الخروج بتشريعات تمثل الشعب، فإنها في الوقت نفسه تناشد السلطة السياسية عمل التغييرات الدستورية بصورة مباشرة من قمة النظام بواسطة الملك نفسه عبر آليات غير دستورية. وهي ترفض التعامل مع المجالس البلدية في حين انها هي التي روّجت لها ودعمت المرشحين للوصول إلى هذه المجالس.
4- التيار العلماني، لو صح التعبير، كان اختياره براجماتيا في مقاطعة الانتخابات، وخصوصا، التيار الذي تمثله جمعية العمل الوطني الديمقراطي. فقد اكتشف هذا التيار الحاجة الملحة إلى بناء قاعدة جماهيرية عريضة تمكنه من إيصال مرشحيه إلى البرلمان. إذ جاءت نتائج انتخابات المجالس البلدية مخيبة جدا لهذا التيار الذي أبلى بلاء حسنا طوال العقود الماضية وكافح وناضل ودافع عن مطالب الشعب وقدم الكثير من التضحيات والشهداء. إلا أن الضربات المتتالية لهذا التيار الوطني الشريف جعلته يتراجع قليلا ويعيد تنظيم صفوفه. فهو كما وصفه أحد المراقبين بأنه «ضباط بلا جيش... أما التيار الإسلامي (الشيعي) فهو جيش بلا ضباط».
التيار الإسلامي (السني) وجمعية المنبر الديمقراطي التقدمي كانا أكثر المستفيدين من الانتخابات وأصوبهم قراءة للحال السياسية الجديدة وأكثرهم دقة في تحليلها، إلا أنه يؤخذ عليهما استباق الآخرين في اتخاذ قرار المشاركة وعدم التنسيق والتشاور الجماعي معهم. جمعية التجمع الوطني الديمقراطي بقيادة الناشط المخضرم عبدالله هاشم والنائب فريد غازي كانت الأكثر شجاعة في طرح الرأي الآخر والأكثر دقة وقناعة في ضرورة المشاركة في الانتخابات، إلا أنها دفعت الثمن غاليا إذ عمد التحالفان الرباعي والسداسي إلى تجاهلها أو إقصائها ما أمكن من جبهة الحركة الوطنية.
أما التيار الإسلامي (الشيعي) فهو الذي خسر كثيرا بسبب المقاطعة. فقد كانت فرص فوزه واكتساحه الساحة السياسية جيدة جدا، وذلك على رغم عدم التكافؤ في توزيع الدوائر الانتخابية التي صيغت، بحسب وصف المراقبين، بصورة تستهدف إضعاف قوته وزيادة فرص المرشحين من التيارات الأخرى. إلا أن هذا التيـار، ممثـــلا في جمعية الوفاق الوطني الإسلاميـــة و بتيار المقاطعة الذي بلوره منذ البدايــة عبدالوهاب حسين، من مسقط رأسه في قرية النويدرات، هذا التيار رفض المشاركة في الانتخابات وقرر مقاطعتهــــا مناشـــدا ملك البحرين القيام بعمل التغييرات الدستورية المطلوبة من خارج قبة البرلمان. وهو بهذا القرار خسر فرصة تاريخيــة نأمـــل ألا يخسرها مرة أخرى في المستقبل القريب. ويرى الكثير من المراقبين، أن قرار جمعية الوفاق انسحب على جمعية العمل الديمقراطي وجمعية التجمع القومي وجمعية العمل الإسلامي التي تضامنت مع الوفاق وشكلت على إثر ذلك تحالفا رباعيا يعكس موقفها السياسي، مستفيدة من المخزون الجماهيري للوفاق.
5- ولا شك في أن المجتمع يدرك جيدا أن قرار المقاطعة لم يكن قرار كل أعضاء الجمعيات المقاطعة. فقد كانت هناك رغبات قوية بين أعضاء الجمعيات المقاطعة تدعو إلى المشاركة في الانتخابات، والاستفادة من البرلمان وقاعدته وضماناته وحصاناتـــه لأعضاء البرلمان، والضغط باتجاه التعديلات الدستورية من تحت قبة البرلمان وخارجه، محليا ودوليا. إلا أن أصحاب هذه الرغبة لم يمثلـــوا الغالبية، واختفت أصواتهم ومساهماتهـــم بدرجة ملحوظــة، ربما حفاظا على وحدة صفوف تيارهم، أو خوفا من نيران التشهير والإقصاء والتخوين، التي حملتها بعض تداعيات تيار المقاطعة ضد تيار المشاركة. وقد يكون من المجدي الاطلاع على المسح الذي قامت به جمعية الوفاق بين أعضائها والذي كشف أن من نادى بالمقاطعة كانوا غالبا من فئة الشباب وهم يمثلون غالبية أعضاء الوفاق، بينما من نادى بالمشاركة كانوا غالبا من النخب وهم الأقلية فيها.
6- علماء الشيعة المؤثرون والبارزون في الساحة السياسيــــة، مع أنهـــــم لم يدلوا بدلوهم عن مســألــــة المشاركــة أو المقاطعة، إلا أن المقربين منهم يؤكدون أنهم كانوا أكثر ميلا إلى المشاركة في الانتخابات، وفضلوا تأجيل موقفهم إلى أقصى فترة ممكنة قبل بدء حملة الانتخابات. العلماء المعنيون لم يتمكنوا من إعلان موقفهم لأنهم، بحسب تقدير بعض المتابعين، تفاجأوا بالتعبئة الجماهيرية الواسعة من بعض الرموز الإسلاميــــة الشيعيــــة ضد مبدأ المشاركــــة ومن يدعـــو إليها، بل وضدهــم شخصيا (من دون تسميتهم بأسمائهم) على شاشات الإنترنت، بل حتى في المساجد التي يخطبون فيها من خلال المنشورات التي تحرض الناس ضدهم. ولهذا آثر هؤلاء عدم إعلان موقفهم حفاظا على الوحدة الوطنية والساحة الإسلامية من التفكك والدخول في حقبة سوداوية من النزاع والفتنة. ومن المهم أن نعرف هنا أن هذا التيار الإسلامي (الشيعي) يثق كثيرا بهؤلاء العلماء ويتبنى مواقفهم، وكان قرارهم الصامت كافيا لإرسال إشارة بشأن موقفهم من الانتخابات.
7- ونحن نعتقد أن تيار المقاطعة لن يصمد طويلا ولن يستمر حتى العام 2006 موعد الانتخابات النيابية المقبلة. فالسياسة والاقتصاد في الداخل والخارج، في تغير وحراك مستمرين، ولن يتمكن تيار المقاطعة من تحقيق تفاعل مع هذه المتغيرات المحلية والإقليمية ويضمن تأييد جماهيره والتفافهـــم حوله ما لم يدخل في بؤرة الحدث الرئيسية بدلا من المراوحة على هامش الملعب السياسي. ومن الواضح أن قرار المقاطعة تبلور داخل دائرة محدودة ضمت بداخلها الجمعيات السياسية الأربع: الوفاق والعمل الإسلاميتين والعمل الديمقراطي والتجمع القومي. وعلى رغم الثقل الجماهيري لهذه الجمعيات ودورها النضالي الشريف الذي سجّله التاريخ لها في التعبير عن المطالب الشعبية والدفاع عن الحريات العامة والحقوق الإنسانية، فإننا نزعم أن هذه الجمعيات أغفلت الشارع الاقتصادي وبقية مؤسسات المجتمع المدني. فهي لم تتشاور مع قطاع التجار والمهنيين وأصحاب الأعمال الحرة ومؤسسات المجتمع المدني وبقية النخب السياسية والمثقفة، ولم تتعرف على رؤاهم وموقفهم من الانتخابات ومن الدستور. وهذا يفسر سبب ارتفاع نسبة المشاركين في الانتخابات الذي جاء مفاجأة للجميع وذلك على رغم الحملة القوية للمقاطعة.
وللتدليل على فشل البعض في قراءة الحال البحرينية قراءة موضوعية وعقلانية. كلنا يعلم أن بعض الرموز والنخب السياسية التي حملت لواء المقاطعة كانت تُردّد و تراهن على أن السلطة السياسية ستضطر إلى الإذعان لضغوط المقاطعة في أكتوبر 2002 وتؤجل الانتخابات وتعدل الدستور بمراسيم ملكية. ولهذا لم يكن مستغربا أن تضطرب حسابات هذه النخب فنراها وقفت مشدوهة أمام انطلاق قطار المجلس النيابي متجاهلا تخلفهم عن اللحاق به.
8- ونزعم هنا، أن تجاهل الجمعيات السياسية رؤية بقية النخب المهنية والمثقفة قبل الانتخابات وبعدها، وابتعادها عن دائرة الحراك السياسي الجديدة (أي البرلمان) أفقداها الكثير من قوتها ومنطقها المؤيد من قبل الجماهير أو أدواتها الضاغطة على الحكومة. هذه الوضعية أدت إلى انخفاض درجة الالتفاف الجماهيري والنخبوي حول الجمعيات المقاطعة في مقابل زيادة جماهيريـــة الجمعيــــات المشاركـــة والنواب والأعضـــاء النشطين في البرلـــمان. هذه الوضعية نستطيع تحسسها من خـــلال انحســــار جمهور النـــدوات وانخفــــاض تفاعلهــــم وتجاوبهــــم مــــع برامـــــج الجمعيـــات المقاطعــــة ومشروعاتها (باستثناء ندوة التجنيس السياسي). وهي وضعية ليست في صالح الحركة الوطنية عموما، وليست في صالح الجمعيات المقاطعة بالتحديد، بل ليست في صالحنا جميعا ولا في صالح الوطن.
9- من الواضح أيضا، أن الجمعيات المقاطعة بنت قرارها بعيدا عن التفاعلات والتطورات الإقليمية. فقد تزامن قرار المقاطعة مع قرار أميركا وحليفتها بريطانيا شن عدوانهما على العراق وعزمهما تغيير الخريطة السياسية والاستراتيجية في المنطقة. هذا القرار الإمبريالي حمل معه عدة أدوات ومشروعات ليس أقل منها «مشروع تحديث ودمقرطة الأنظمة السياسية في المنطقة»، وممارسة الضغوط عليها لتعجيل الإصلاحات السياسية والاقتصادية. وعلى رغم عدم تسليمنا للبواعث والنوايا الغربية لهذه (الدمقرطة)، فإنها عوامل إيجابية وحال واقعية كان بإمكان الجمعيات السياسية الاستفادة منها وقراءتها بصورة موضوعية وهادئة ليدركوا من خلالها أن التغيير السياسي آتٍ لا محال حتى لو كانت آليات دستور 2002 تقف له بالمرصاد.
10- ونحن أيضا لا نفهم السبب الذي على أساسه ترتكز الجمعيـــات السياسيــــة المقاطعــة، وتردّد لنا فيه أن «مكتسبات دستور 1973» هي الأفضــــل ويجب الرجـــوع إليها؟ هذا السؤال وجهته إلى أكثر من رمزٍ معــارض فلم أجد جوابا شافيا. ما أذكره أن فترة السبعينات هي فترة النكبة الكبرى للبحرين. ففي تلك الحقبة شهدنا ولادة قانون أمن الدولة وحلّ البرلمان وقمع الحريات وحملات الاعتقالات والتهميش لكل فرد أو مؤسسة مدنية. ما أذكره أن جو تلك الحقبة كان مشحونا بالقمع والتعتيم والظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتآمر الإقليمي والدولي على أي تحرك وطني شريف في الخليج. بينما العام 2001 وما تلاه، هي أعوام سيذكرها التاريخ والعالم بأنها: حقبة الحرية والشفافية والعدالة والتأييد الإقليمي والدولي لهذا المشروع الإصلاحي البحريني الذي جمع الحركة الوطنية والسلطة في سفينةٍ واحدة، وجعل من البحرين نموذجا عربيا ودوليا يضرب به المثل في المحافل الدولية. فما هو الأفضل بالله عليكم؟
ما هي المشكلة إذن؟
المشكلة أن الساحة السياسية صارت موضع تنافس وشد وجذب ما بين الجمعيات السياسية، كلٌ يحاول إثبات صحة تحليله وقراءته للحال السياسية، فلم يعد الوطن والمواطنون هم الغاية النهائية، بل صارت الغاية هي اقتطاع أكبر نصيب من هذه المائدة الغنيمة التي نزلت لهم من السماء واستقطاب أكبر عدد من الجمهور البحريني والمكاسب السياسية. والمشكلة أيضا أننا نظرنا إلى النصوص المكتوبة في دستور 2002 بحذافيرها وقارناها بدستور 1973 ورسمنا سيناريوهات لآلياتها وسلبياتها، ولم نرفـــع رؤوسنا إلى السمــاء لكي نحمد الله ونحن نتنفس معــا نسائم بيئة الحرية والأمــن والســلام التي هلّت علينا مع دخول العام 2001. المشكلة أننا مازلنا مثقلين بتجارب قاسية مع السلطة السياسيـة في بلادنا ولم ندرك أن السياســـة، وليســت الحروب وحدها، هي كرّ وفرّ، ومناورة ومحاورة، وأخذ وعطاء... المشكلة أننا ننوء بأثقال من الشكوك وعدم الثقة في كل ما يأتي لنا من بوابة السلطة، وننظر إليه بعين الريبة والحذر والخوف. هذه الصدور المثقلة بتاريخ مكتظ بالآلام والدماء والدموع والخوف وعدم الشعور بالأمان أفقدتنا القدرة على رؤية الأمور بنظرة واقعية وبعقـــول واعية وقلوب متفتحـــــة. وأزعــم أننا مازلنـا لا نفهم طبيعة التحول السياسي ومسار «الديمقراطيــة الـمُرشّدة» فهي أولى خطوات الانفتـــاح والديمقراطيـــة في أي بلد، ولا يمكن لأي نظامٍ كان أن يتحول إلى الديمقراطية بين ليلةٍ وضحاها. وأزعم أيضا أننا قمنا بتسطيح حال التحول والصراع السياسي التي نعيشها وافترضنا وجود توافق لا صراع بين المدرستين القديمة والجديدة، وأنهما «متآمرتان على الشعب والحركة الوطنية، وأن المكاسـب الحالية ليست سوى مكاسب مسرحيـة ووهمية»، وحتى لو كانت ملموســة، فهي بحسـب تعبيراتنا: «استحقاقات» ولا تعكس النوايا «الحقيقية» لدى السلطة. المشكلة أيضا أننا لم نشخّص الحال السياسية الراهنة في البحرين، أو المشهد السياسي في المنطقة والتحولات الكبرى التي تشهدها، بصورة عقلانية بعيدا عن العواطف والتجاذبات الحزبية، ولم نتعرف على موقع البحرين والحركة الوطنية في ظل هذه التحولات والتغيرات الجذرية. فمازلنا نفكر بعقلية الستينات والسبعينات وما تلاها من عقود، ولم نمتلك الجرأة حتى اليوم على ممارسة النقد والنقد الذاتي أو تلقيهما من الآخرين. فمن انتقد الجمعيات المقاطعة واختلف معها في قراءة الحال السياسية الراهنة فهو إما: «عميل أو خائن أو انهزامي أو متزلف يطمح إلى كسب رضا السلطة ومكرماتها ومقاعدهـــا الوفيــرة»؟ فهل هذا ما نطلق عليه: النقد والنقـد الذاتـي؟ أليس هذا نسخة من مبدأ الوعيـد والتهديد: «إما معنا أو ضدنا»؟.
11- وهنا دعونا نتساءل جميعا: لماذا قام ذلك التيار الديمقراطي بمقاطعة دستور 1973 آنذاك وصار يطالب به اليوم ويجعل منه مرجعية للتطور السياسي في البحرين؟ ما هذه التناقضات الغريبة؟ هل هذه تكتيكات سياسية أم مواقف مبدئية لا حياد عنها؟ وماذا لو لم يكن هناك أصلا دستور 1973؟ هل ستتوقف عجلة الحراك السياسي في البحريـن والخليج؟ هل سيتوقف حراك المعارضة وضغوطها باتجاه التغيير؟ وماذا عن الأنظمة السياسية في المنطقة؟ هل بإمكانها مواجهة رياح التغيير القادمة من أميركا ومن المجتمع الدولي ومن الشعوب المتعطشة للحرية؟ هل هناك نظام عربي واحد يستطيع اليوم الوقوف ضد هذا التيار الجارف؟ هل يستطيع تحديدا أي نظام في الخليج التصدي للضغوط الأميركية أو رفض الإرادة الدولية لتحقيق الإصلاحات السياسية؟ هل تفهم الجمعيات السياسية طبيعة الضغوط التي فرضتها أميركا على الأنظمة السياسية في المنطقة؟ وماذا عن طبيعة التجاذبات بين المدرستين القديمة والجديدة في نظامنا السياسي؟ هل محاور النظام متآمرة الآن على الحركة الوطنية كما يدعي البعض، أم ان الشد والجذب مازالا في تطور وتنافس في ملعب السلطة؟ لماذا هذا التسطيح والتبسيط للمسرح السياسي؟ ما الغرض من هذا التبسيط الذي يدعي باتفاق ركائز السلطة وتآمرها ضد الشعب؟ لماذا هذا التبسيط المخل الذي يفترض أن رموز السلطة الجديدة منهمكون في التجارة وجمع المـــال والثروات ولا يعنيهم ما يدور في صدور الشعــب؟ لماذا إنكار هذا التطــور الجذري والمبـــادرة السلميـــة من ملك البحرين التي غيرت كل حياتنا ونظامنـــا من الكبت إلى الحرية، ومن العنف إلى السلام، ومن محيط الخوف إلى بر الأمان، ومن نفق الظلم إلى طريق العدالة؟.
12- على رغم كل ذلك نقول: إن الجمعيات السياسية ليست وحدها الملومة هنا. السلطة السياسية هي الأخرى مطالبة بمد يدها لمعالجة هذه الحال السياسية المقلقة. فهي من ناحية مطالبة باتخاذ قرارات استراتيجية وجذرية، وأكثر جرأة وشفافية، لتفعيل الميثاق والدستور والمشروع الإصلاحي وإزالة العقبات والعوائق التي توضع في طريقه جهارا نهارا لتأسيس سلطة تشريعية أكثر قوّة وفعالية وتأكيد فصل السلطات الثلاث. وهي مطالبة بتحسين سمعة وصورة مجلس الشورى وترشيح كوادر أكثر كفاءة واستقلاليـــة وتعكس روح الميثاق، وتؤكد تماسك نظـــام المجلسين وصدق الإرادة الملكية واحتضانهـــا للمطالب الشعبيـــة. نحن بحاجة إلى كوادر اشتهرت بجدارتها ونزاهتها بدلا من الكوادر التي اشتهرت بتملقها وتزلفها حرصا على مكانتها وامتيازاتها الاجتماعية. وهي أيضا مطالبة بالمزيد من الشفافية ومكافحة الفساد الإداري والمالي وتعيين دماء جديدة في السلطة التنفيذية ومؤسساتها الحكومية والعامة تعكس هذه المرحلة وروحها ومبادئها. فهناك مشكل حقيقي يتمثل في عدم تكافؤ الفرص واستمرار آليات التمييز السياسي أو الطائفي وما لم يتم معالجة هذا التمييز فإن التوافق الوطني سيظل في خطر مستمر.
13- المطلوب الآن هو مراجعة شجاعة وجذرية لمسألة المقاطعة. فالجمعيات السياسية ورموزها ليسوا معصومين من الخطأ، ولا أظنهم يدعون أنهم وحدهم يملكون الحقيقـــة المطلقـــة. بل ربما كان قرار الجمعيات المقاطعة قريبا من الصواب أو مبنيـــا على مبــررات ومدلولات منطقيــة صحيحــة. وكلنـا يــدرك «أن ما أُعطيناه أقل مما وعدنــا به، وأن ما أُعطيناه هو استحقاقات وليس عطايا ومنحا. وأن هذا الشعب يستحق الكثير بعد تلك السنوات من الحرمان والقمع....». ولكن هل المقاطعة هي الحل؟ وهل اللجوء إلى جلالة الملك ومناشدته تحقيق التغيير الدستوري المطلوب هو الأسلوب الأفضل والوحيد؟ بل هل هو أسلوب دستــوري صحيح؟ وماذا يا ترى سيكون موقف تيــار المقاطعـــة لو أن جلالـــــة الملك رفض التدخل من خارج قبة البرلمان لتعديل الدستــور؟ هل سيؤدي ذلك إلى استمرار المقاطعــة للانتخابات القادمـــة حتى لو افتلّت الجماهير وملّت هذا الموقــف المتعنـّـت؟ هل ستقـــوم المعارضــــة بتصعيـــد الموقـف وجرنـــا جميعــا إلى المربـــع رقم واحــد؟ هل تدرك المعارضــة أن تصعيــد الموقف وزيادة التوتر وانفلات الوضع الأمني هو جلّ ما يتمناه مؤيـدو (قبضة الحديد) الذين خســروا الكثير نتيجة المشروع الإصلاحي؟ وماذا لــو دخلنا فعلا جميعا في المربع رقم واحد؟ من هم الذين سيصمدون ويدفعون الثمن؟ أليست الجماهير المستضعفة وأبناء الفقراء هم الضحية وفي الواجهة دائما؟
14- ختاما، هذه الورقة لا تستهدف توبيخ الجمعيات المقاطعة، فنحن ترعرعنا ونشأنا على أغصان الحركة الوطنية، ومازلنا نتعلم منها ونستهدي بهديها ونقوى بقوتها. إنما نستهدف من هذه الورقة ممارسة النقد والنقد الذاتي وطرح الرأي والرأي الآخر، من دون انتقاص من شأن الجمعيات المقاطعة ورموزها وقياداتها التي نكنّ لها كل التقدير والاعتزاز والفخر. نستهدف إعادة الروح والتجديد إلى الحركة الوطنية البحرينية في وقت نحن والوطن في أمسّ الحاجة إلى طاقاتها وإبداعاتها وتمثيلها للمطالب الشعبية. نستهدف إعطاء هذا الوطن ومواطنيــــه الفرص لالتقاط أنفاسه وبناء قواعده وموارده وكوادره للبناء والسلام والتنمية. نستهدف إعطاء الفرصة للسلطة السياسية لكي تفي بوعودها وتخلصنا من خصمنا المشترك: الفساد السياسي والإداري والمالي، الذي مازال ينخر في بدننا ويعطل تطورنا ويزرع الشك والأشواك فينا ومن حولنا. نستهدف إعطاء فرصة للإرادة السياسية الملكية لتحقيق التوافق والمصالحة الوطنية، وإثبات صدق النوايا والعزائم: لمملكة دستورية حقيقية، وتجسيد واقعي للديمقراطية والتنمية والعدالة في دولة المؤسسات والقانون. نستهدف إعطاء فرصة لتقويم المجلس الوطني بغرفتيه المنتخبة والمعينة وتجسيد آليات الرقابة والمحاسبة والتشريع. نستهدف إعطاء فرصة لهذا الشعب الذي لم يهنأ طوال عدة عقود أنهكته حروب الخليج الثلاث، وأنهكت قواه قوى الاستبداد والتآمر المحلية والإقليمية والدولية واستنزفت موارده وخيراته، وهو بحاجة الآن أكثر من غيره إلى هذه الفرصة.
فهل نستحق جميعا استراحة المحارب، أم إن الجمعيات السياسية المقاطعة ماضية في طريقها غير مبالية بالرأي الآخر؟
ورقة قدمت ضمن حلقة نقاش عن «البحرين والتجربة الانتخابية»
العدد 403 - الإثنين 13 أكتوبر 2003م الموافق 16 شعبان 1424هـ