أكثر من ثمانمئة شهيد، سقطوا صرعى في الشهر الذي مضي، دونما ذنب اقترفوه، ومن غير أن يعلموا سبب قتلهم، سوى أن المقادير جعلتهم من المنتمين لأرض السواد. وإذا ما عدنا إلى هوياتهم ومناطقهم وانتماءاتهم، فسنجد أنهم يمثلون بشكل واقعي صورة العراق الجريح، وخارطته وجميع مكونات نسيجه الاجتماعي.
ولسوء طالع العراقيين، أن ما حدث في الشهر الذي مضى ليس سوى غيض من فيض. فالليل العراقي، المخضب بالدم طويل، وقد مضت عليه أكثر من ثلاثة عقود. بدأ في صورته الدراماتيكية المعاصرة، إثر الحرب العراقية - الإيرانية، وتواصل مع حرب الخليج الثانية، ليعتمد في شكل استباحة، واحتلال أميركي مباشر لأرض السواد العام 2003.
والذين ساورهم الوهم، وصدّقوا فرية الديمقراطية والحرية والعراق الجديد، فقدموا بلادهم واستقلالها الوطني قرباناً، وساندوا الاحتلال، اكتشفوا أن أحلامهم، لم تكن إلا زيفاً، والقلة منهم عبرت عن ندمها، في وقت لم يعد فيه للندم من معنى. إذ لم يكن مشروع الدمقرطة، غير مشروع تفتيت للعراق، ومكونات نسيجه الاجتماعي، وتقسيمه إلى كانتونات مجهرية، على أساس القسمة بين الأقليات والطوائف.
أكثر من عشر سنوات على الاحتلال، وبحر الدم ينزف في شكل أمواج متلاطمة وشلالات ألوانها قرمزية، ولا تبدو بالمدى المنظور لمنابر الموت نهاية. والأغرب بل الأعجب أن العراقيين، يكادون هم الشعب الوحيد بين أمم الأرض، الذي يشيع قتلاه، بشكل يومي، من غير أن يعرف أسباب تفجير السيارات المفخخة، والألغام والقذائف التي تتساقط عليه.
فالتفجيرات التي تحدث صباح مساء، والتي تنال من الأسواق وأماكن التجمعات ودور العبادة، وتحصد في طريقها الأبرياء من الناس، لا تميز بين أتباع دين وآخر، ولا بين مكون مذهبي ومكون آخر. وهي لا تحدث على أساس المناطق، ولا تستهدف أقلية أو طائفة بعينها، بل هي جحيم يطال الجميع، وليست لها هوية، فهي تستهدف السني والشيعي والمسيحي والصابئي والكردي والتركماني والآشوري والكلداني على السواء، وليس فيها غالب أو مغلوب. وإذا كان لابد من توصيف وتحديد هوية لها، فإنها جرائم إرهابية، موجهة ضد الجميع، وتطال العراقيين، من غير تمييز.
وإذا كان مفهوماً، في الأيام الأولى للاحتلال، وفي مناخات الفوضى التي تسود كل مناطق العراق، أن تبرز بقوة حالات الانتقام والكيد من التاريخ، فتنهب المتاحف، وتحرق المكتبات ويجري الاعتداء على الجامعات ومراكز البحوث العلمية والمصانع، ويحدث عمل منهجي ومدبر لتفكيك الدولة الوطنية العراقية، لحساب الميليشيات التي أتت مع الاحتلال، وعلى ظهور دباباته. وإذا كان أيضاً مفهوماً، يتصدى العراقيون، بأكفانهم للاحتلال، وللقوى الإقليمية التي وقفت معه في عدوانه، في مقاومة رافضة للهيمنة، مؤكدة تمسكها بعروبة العراق، كياناً وهوية، فإن من غير المفهوم، وغير المقبول أن يتواصل مسلسل القتل والتدمير وحرب الإبادة، بعد أكثر من عشر سنوات على احتلال العراق.
إن أي عمل جدي لإيقاف بحر الدم، الذي يأخذ في طغيانه العشرات من المدنيين العراقيين كل يوم، ينبغي أن ينطلق من الكشف عن الأسباب التي تدفع إلى استمرار هوس القتل، والعمل على تفكيكها وحلها، بما يؤمن عودة الأمن والاستقرار والسلام لكل العراقيين، من غير تمييز. إلا أن المعضلة تكمن في غياب الوعي الدقيق بدوافع ما يجري، وإلى أين يتجه، إلا أن يكون استمراراً لفوضى خلاقة، تأكد أنه لن يخرج من رحمها سوى المزيد من شلالات الدم والفوضى.
ولكي تتضح لنا بشكل جليّ حالة العجز، نطرح بعضاً من الفرضيات التي تتداولها أجهزة الإعلام، حول أسباب تفجر الصراع في الأشهر الأخيرة. قيل أن المفجرين في بغداد هم أتباع الحركة الكردية. وأن دوافعها تكمن في رغبة الأكراد بإضعاف المركز في العاصمة، بحيث يتمكنون في النهاية من إعلان دولة مستقلة في شمال العراق، في ظل وضع وعجز من المركز، عن الاضطلاع بحماية وحدة الأراضي العراقية.
وقيل أيضاً، إن أتباع الحكومة المركزية، التي يرأسها نوري المالكي، يفجرون في الموصل وكركوك والسليمانية وشقلاوة، بهدف الرد على التفجيرات التي يشنها الأكراد. والهدف هو خلق ظروف تجعل الأكراد في وضع صعب، لا يتيح لهم الإعلان عن استقلال كيانهم في شمال العراق.
وقيل إن ما يجري من تفجيرات، وبشكل خاص في مناطق الصحوات، هو عمليات انتقام ينفذها تنظيم القاعدة، بسبب تخلي من نظموا الصحوات عن التحالف مع القاعدة، بل ووقوفهم مع المحتل الأميركي والحكومة المعيّنة في بغداد، ضد «الجهاد»، الذي تقوده عدة قوى، تنتمي في غالبيتها لمنظمات إسلامية متطرفة. وفي المقابل، تتصدى الصحوات، في عمليات رد انتقامية لأماكن تواجد التكفيريين، وفي مقدمتهم ما يعرف بدولة العراق الإسلامية، المسمى الآخر لتنظيم القاعدة.
وأخيراً وليس آخراً، قيل إن التفجيرات الأخيرة، هي مواجهات بالوكالة وتصفية حسابات بين قوى إقليمية وعربية، على أرض العراق، حيث يدّعي فريق مناصرته للشيعة، بينما يدعي الفريق الآخر، مناصرته للسنة. والخاسر الوحيد، من كل هذه التفجيرات هم العراقيون.
لا مخرج من الأزمة في العراق، وإيقاف شلال الدم، إلا بمعالجة المأزق الذي وصلت إليه العملية السياسية التي هندسها السفير الأميركي بول برايمر، والكامن في جوهر العملية ذاتها. تحقيق المصالحة الوطنية، يقتضي بالدرجة الأولى، إلغاء لكل إفرازات الاحتلال، بما في ذلك العملية السياسية، والدستور الملحق بها، والهياكل الجديدة التي تشكلت بعد الاحتلال، والمستندة على إضعاف دور المركز، وتغليب دور الإدارات غير المركزية، تحت مفهوم مشوه، عرف بالفيدرالية.
ولاشك أن تحقيق ذلك، يقتضي وقف التدخلات الإقليمية في شئون العراق، وترك العراق لأهله ليقرّروا ما يشاءون في طريقة إدارة شئون مستقبلهم. وعلى الأشقاء العرب، أن يناصروا هذه الخيارات، وهي خيارات ستعيد للعراق حضوره العربي وهويته القومية. وستسهم من دون شك في تعضيد الأمن القومي العربي الجماعي، لخدمة الأمة وتعزيز استقلالها وفرض إرادتها، والنهوض بمشروعها التنموي في مختلف المجالات.
فعسى أن نسهم جميعاً، في وقف شلالات الدم، واستعادة الفرح، ووضع البسمة على شفاه أطفال العراق.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4024 - الخميس 12 سبتمبر 2013م الموافق 07 ذي القعدة 1434هـ