ينبغي أن نتذكر أنه لو شاء الله أن يقوم البشر بالعمل الثوري ما كان خلق الكون في ستة أيام، وهو القادر على أن يخلقه في ثانية واحدة بأمره «إِنّما أَمرُهُ إذا أَراد شيئًا أنْ يقول له كُنْ فيكونُ» (يس،82). من ثم فإنني كباحث في قضايا الفكر السياسي، أجد هذه الحكمة الربانية بالغة الأهمية، ولكن البشر بطبعهم لا يتبعونها، ولهذا قال تعالى «إِنَّ الإنسانَ خُلقَ هلوعاً. إِذا مسَّهُ الشرُّ جَزُوعاً. وإِذا مسَّهُ الخيرُ منُوعاً. إِلا المصلّينَ» (المعارج، 19-22). وقوله تعالى «ويدْعُ الإنسانُ بالشرِّ دُعاءَهُ بالخيرِ وكان الإِنسانُ عجولا» (الإسراء،11).
وعلينا أن نعيد التوازن للفكر البشري ما بين الانجاز التطوري والتغيير الثوري، وبين الحقوق والواجبات، وبين مصالح المجتمع ومصالح الفرد، وهذا يكون عبر آلية إقرار الحقوق، أي المحاكم، وآلية تنفيذ القرار أو أجهزة إنفاذ القانون أي الشرطة وأجهزة الأمن.
من هنا فإن إنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان تعد مبادرة طيبة في هذا الصدد، خصوصاً في ضوء ثلاثة اعتبارات هي، الأول: أنها جاءت بعد أحداث فبراير – مارس 2011 في البحرين، وما خلّفته من آثار أدت لحدوث شرخ مجتمعي، ما ترتب عليه ضرورة العمل لرأب الصدع وإنشاء لجنة وطنية مستقلة وهي بمبادرة من جلالة الملك، وتكوّنت من شخصيات دولية برئاسة البروفسور محمود شريف بسيوني، وأصدرت تقريرها المتضمن توصياتها. وهنا ينبغي أن نقول إن السلطات عليها أن تنفّذ تلك التوصيات، ولكن بالمنطق القانوني الصحيح، أنها توصيات وليست إحكاماً، وإن التوصيات يتم إنشاء آليات ليتسنى بحث كيفية تنفيذها.
الثاني: إن التوصيات والتعهدات التي حدثت من لجنة بسيوني ومن مجلس حقوق الإنسان، هي بحكم التحليل القانوني غير جازمة، فهي ترتبط بتطور المجتمع وفكره وأحواله السياسية وقدراته الاقتصادية وتطوره المجتمعي ومدى ملائمة هذه التوصية أو تلك في لحظة تاريخية ومجتمعية معينة، ولكن السؤال من الذي يقرر ذلك؟ إنه السلطات، ووفقاً للقانون وقرارات المحاكم. فالرؤية لدى كل طرف تختلف، وهكذا حكمة الله التي أشرت إليها في بداية هذا المقال ولابد من الاحتكام لطرف أعلى ليفصل بيننا.
الثالث: إن هذه المبادرة بإنشاء محكمة عربية لحقوق الإنسان جاءت من أعلى سلطة رسمية في الدولة وستكون هذه المحكمة هي أعلى سلطة قانونية حقوقية على المستوى العربي، ومن الضروري أن تحترم أحكامها لأنها لن تكون توصيات بل قرارات وأحكام ملزمة للدول والشعوب العربية كافة. وعلينا كمثقفين ومواطنين ومسئولين، أن نحرص على أن تبدأ المحكمة عملها في أقرب وقت، وأن نحترم قراراتها، ونمتثل لها إذا حكمت لنا أو لمصلحة خصمنا، فالعدالة البشرية هي دائماً نسبية، وهنا قال الرسول الكريم ما معناه (وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فإذا حكمت له بغير حقه فقد حكمت له بقطعة من النار). هذا هو النموذج الأعلى لنا معشر المسلمين، فهل نتأمل في هذه المعاني الدقيقة؟ وهل ندرك أننا بشر في أحكامنا ومواقفنا ورؤانا؟ وأن ما نراه ليس بالضرورة الحق المطلق، وما يراه غيرنا ليس بالضرورة غير ذلك؟ وحقاً قال الإمام الشافعي (رض): «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». وقد قال الأديب بريخت في مسرحية مشهورة جملة ذات دلالة «أيها النيرون إن شيئاً في عالمكم خطأ»، أي أن رجال الدين وأصحاب القرار عليهم أن يراجعوا أنفسهم ولا يعتقدوا بالصدق الكامل والعدالة التامة في أنفسهم، وإلا ما حدث في الكون ما نراه من مآسٍ ودمار وصراع طائفي وديني وعرقي واجتماعي وطبقي.
إننا نجتهد وقد نصيب آو نخطئ، فنصحّح الأخطاء، وحقاً قال السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، وهكذا عملية الإصلاح المجتمعي لابد أن يتجاوز كل طرف عن بعض أخطاء الطرف الآخر، وأن يتسامح من حين لآخر، وأن يقدّم تنازلات حتى يمكن التوصل إلى كلمة سواء تعيد الوئام بدلاً من الخصام، والتعاون بدلاً من الصراع، وهكذا تتقدّم المجتمعات.
وختاماً، ثمة تقدير خاص لجنودٍ عملوا ليل نهار لإخراج هذه المحكمة إلى حيّز التنفيذ، وفي مقدمتهم وزراء الخارجية الشيخ خالد ووزير العدل وأمين عام جامعة الدول العربية ومساعدوهم وخصوصاً الوكيل حمد العامر المختص بالشئون الخليجية والعربية لدأبه وإصراره على تحقيق الانجاز.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4020 - الأحد 08 سبتمبر 2013م الموافق 03 ذي القعدة 1434هـ
الأساس حق وليست المصلحة - غنى فاحش وفقر مدقع
يقال قل الحق ولو على نفسك ويقال ما زاد عن حده إلا إنقلب ضده كما يقال الزائد كما الناقص. وهذا ليس من الأسرار لكن ظهر الفساد بعد أن زاد- يعني كشف عن معدلات تظخم وبطالة وإفلاس مالي وآخر أخلاقي كما زاد التلوث.بينما رؤوس أمال تزداد وترتفع المعيشة على الكرة الأرضية. هل هذا بسبب العدل أو زير العدل وضع على البعض ريشه ولا يحاسب عن خطيئة أو ذنب أو جرم إرتكبه بينما الفقير المسكين يدفع ضرائب أخطاء الكبار والتجار والشركات العملاقة؟ وأين العلاقة الانسانية؟