تشهد إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش إعادة تقييم لسياستها في العراق التي أوضحها المبادرة الجديدة بتشكيل فريق العمل الجديد لإدارة الوضع في العراق برئاسة مستشارة بوش للأمن القومي كوندليزا رايس. والتقييم الجديد جاء وسط ما يقال إنه نزاع بين من يوصفون بالمحافظين الجدد الذين يتبنون خطا متطرفا في السياسة الخارجية والأمن القومي وبين من يوصفون بـ «المعتدلين». ولكن يبدو أن الخطوط غير واضحة تماما في الخطوة الأخيرة. وكان هناك على الدوام كلام «ودي» بأن لا شيء في الجو. ولكن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الذي أصبح يطلق عليه في واشنطن «صاحب المزاج الفظ» لم يستطع أن يخفي ما هو تحت السطح. فقد أعلن الثلثاء الماضي أنه لم يستشر بشأن فريق عمل رايس الذي أطلق عليه «مجموعة استقرار العراق». وقد رد بحدة شديدة على سؤال عن عدم استشارته من قبل صحافي ألماني بالقول: «قلت إنني لا أعرف، أليس هذا واضحا. ألا تفهم الإنجليزية».
وعلى رغم هذا القول فإن الخصوص في ادارة بوش يتظاهرون بأن كل شيء على ما يرام. وحقيقة الأمر ليست كذلك فالنقاش والخصام مستمران خلف الستار بأكثر مما تشير إليه المواقف العلنية. ويرى مراقبون أن الوضع داخل إدارة بوش يسير نحو الأفضل، فكلما انكشفت أمور الخلاف علنا لدى الناخب الأميركي كان ذلك أفضل في صوغ مواقفه. فقد أدى النقاش القوي السابق إلى منع بعض الأخطاء وخصوصا في ضوء التعتيم الجيد للغاية الذي تقوم به ادارة بوش فيما يتعلق بآثار أعمالها. وهذا التعتيم في الحقيقة هو الذي يلقي ستارا على فهم إعادة التقييم التي تمت بشأن العراق. ومع ذلك فإن هناك تطورات أخيرة قد تلقي ضوءا على ما حدث وسط الضباب المظلم الذي يلف مرحلة ما بعد الحرب في العراق. ومن جملة هذه التطورات الخلاف المتزايد بين من يطلقون عليه «قيصر» الاحتلال الأميركي في العراق بول بريمر ومجلس الحكم في العراق الذي شكله بريمر نفسه. فبعض الأعضاء البارزين في المجلس يريدونه أن يكون سلطة انتقالية تتولى السيادة وبريمر يرفض ذلك.
وتثار في هذا الشأن أسئلة عن انعكاس رأي بريمر في واشنطن. وتقول مصادر مطلعة ان مسئولين أميركيين كبار يعارضون بريمر ويؤيدون أن يصبح مجلس الحكم سلطة انتقالية، ويتحدثون في واشنطن عن خطة غير رسمية للتحول في العراق إلى حكومة انتقالية من مجلس الحكم. وفي هذا الشأن أكدت مصادر دبلوماسية أن نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفوفيتز تلقى أخيرا من المستشار لدى الأمم المتحدة غسان سلامة خطة لتشكيل حكومة عراقية انتقالية.
وثمة مسألة أخرى تطرح نفسها على المسئولين الأميركيين وتشكل نقطة خلاف وتتعلق بالموقف من عضو مجلس الحكم أحمد الجلبي الذي يشار إليه باعتباره المفضل لدى القيادة المدنية لوزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون». اذ يقال الآن في واشنطن أن مكانته هذه سقطت داخل «البنتاغون». وذكر مصدر مطلع «ان الجلبي حرق معظم جسوره» في واشنطن لمخاصماته المتعددة مع ادارة بوش وأن انصاره فيها توصلوا إلى استنتاج بأنه يجعل الوضع الصعب في العراق أكثر سوءا.
وهناك الكثير من الروايات بشأن الجلبي الذي تؤكد مصادر صحافية أن فقدانه النفوذ في واشنطن جاء خلال زيارة قام بها الملك الأردني عبد الله الثاني لواشنطن في سبتمبر/ايلول الماضي. إذ ان الجلبي متهم بالفساد المالي ومحكوم عليه بالسجن لمسئوليته عن «فضيحة إفلاس بنك البتراء» الأردني في الثمانينات من القرن الماضي. وأكد الرئيس بوش للملك الأردني أن حكومته ستأخذ في الاعتبار قلق الأردنيين بشأن الجلبي. ولكن هناك رواية أخرى تقول ان مبعوثا من حاشية نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني حاول حديثا تخفيف الضربة بإبلاغ الجلبي أن يقلل من ظهوره وينتظر «مرور العاصفة». ويريد الجلبي استبعاد البعثيين كليا في العراق بينما بريمر يقوم بإعادة تأهيل بعض ضباط الجيش العراقي الذي أمر بحله.
وفيما يتعلق برامسفيلد فإن الهالة التي أقيمت حوله كما يبدو أخذت تفقد بريقها. ويعزو محللون ذلك إلى أن رامسفيلد كان مصمما على أن عراق ما بعد الحرب هو من اختصاصه تديره القيادة المركزية التي يترأسها الجنرال جون أبوزيد وبريمر وليس وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) أو وزارة الخارجية الأميركية.
ويظهر رد رامسفيلد الفظ على الصحافي الألماني إدراكه أن بوش نفسه وليس رايس هو الذي قرر إيجاد المبادرة الجديدة الخاصة بالعراق التي تشارك فيها عدة أجهزة ووكالات حكومية أميركية. ويعني ذلك ببساطة في ضوء الجدل السابق أن هبوط رامسفيلد يعني صعود منافسه كولن باول. ويرى مراقبون نفوذا متزايدا لباول في السياسة المتعلقة بالعراق. ويثير محللون وخبراء السؤال عما إذا كانت رايس قادرة على إنجاح العملية السياسية. ويرى منتقدو رايس أن مجلس الأمن القومي الذي ترأسه فشل سابقا في التنسيق بين الوكالات الأميركية الحكومية المختلفة ما زاد في النزاعات. وثمة مشكلة تحتاج إلى حل فوري هي ديون العراق الخارجية التي يقدرها البعض بنحو 130 مليار دولار. فوزارة المالية الأميركية تصر على إعادة التفاوض بشأنها بينما يرى بعض المسئولين في «البنتاغون» «السماح بها».
كما أن أخطاء السياسة الأميركية في العراق كثيرة، ولذلك فإن الاحتمال القوي هو زيادة النزاعات في واشنطن بشأن العراق. ومع ذك فإن النقاش الداخلي يعتبر صحيا إذا أدى إلى سياسات واضحة ومعقولة ما يعكس نفسه على مواقف الناخبين الأميركيين ويجعلهم أكثر دراية بما يجري حقا وليس بما تفصله وسائل إعلام ذات اتجاهات محددة. إذ يثار سؤال عما إذا كان تشكيل «مجموعة رايس» يتعلق بصورة مستعجلة بتغيير التغطية الإعلامية للأوضاع في العراق، وهي مسألة مستعجلة في ضوء التعتيم الإعلامي الأميركي، ومع ذلك فإن بوش مثل كل الرؤساء الأميركيين السابقين يريد أن يتأكد من أن الأزمات السياسية لا تضر بحملته من أجل إعادة انتخابه، ولذلك شكلت رايس ضمن مجموعة الاستقرار في العراق مجموعة عاملة عن التغيير السياسي أنيطت رئاستها بمفكر جيوبوليتيكي هو روبرت بلاك ويل الذي أقنعته رايس بتأجيل تقاعده بعد مهمته التي استمرت عامين سفيرا للولايات المتحدة لدى الهند والعمل لدى رايس بشأن العراق.
وساعد بلاك ويل في تحول العلاقة بين واشنطن ونيودلهي من التباعد إلى التقارب الاستراتيجي وهو واحد من مستشاري حملة بوش في السياسة الخارجية العام 2000. فهو يفهم متطلبات الحملة الانتخابية وتقاطعات السياسة الخارجية. وهو أمر يدفع المراقبين إلى الاعتقاد بأن الهدف من تشكيل «مجموعة رايس» قد يكون وضع بعض السياسات المثيرة على الرف تمهيدا لحملة انتخابات رئاسية هادئة لا يلتقط فيها الخصوم الديمقراطيون كل خطأ «جمهوري» لتوضيحه للشعب الأميركي في حملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة
العدد 402 - الأحد 12 أكتوبر 2003م الموافق 15 شعبان 1424هـ