التطورات الأخيرة، في مصر التي أخذت مكانها في الثلاثين من يونيو/حزيران الماضي، وما أعقبها من تنحية الرئيس محمد مرسي عن سدة الحكم، وإنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين، ووجود مناخات رسمية وشعبية معادية للهيمنة الغربية على مصر، وموقف الإدارة الأميركية السلبي لهذه التحولات والذي وصل حد التهديد بقطع المعونة، تطرح أسئلة جوهرية عن موقف الكيان الصهيوني من هذه الأحداث.
فمنذ نكبة فلسطين، ولثلاثة عقود، ظل اعتراف أية دولة عربية بالكيان الغاصب حلماً بعيد المنال. وقد عبّر عن ذلك بوضوح، ديفيد بن غوريون، أول رئيس حكومة إسرائيلية. فمن وجهة نظر قادة الكيان الصهيوني، يعني رفض العرب اغتصابهم لفلسطين، استمرار حالة الحرب، وأن وجودهم في المنطقة عرضة للتهديد. وكان توقيع الكيان لاتفاقية كامب ديفيد العام 1978، مع مصر خطوة رئيسة في تحقيق هذا الحلم، ليس فقط لأن الكيان الصهيوني تمكّن من إحداث ثغرة رئيسة في جدار الرفض العربي لكيانه الغاصب، بل لأن هذا الاختراق تم مع أكبر دولة عربية مواجهة، والأكثر كثافة سكانية بين الأقطار العربية.
لم يتمثّل إنجاز كامب ديفيد في تحقيق الاعتراف المتبادل بين مصر و«إسرائيل» فقط، ولكن في فتح الباب أمام معاهدات صلح أخرى مع بقية الدول العربية. علاوة على ذلك، ارتبطت معاهدة كامب ديفيد، بفرض قيود على مصر، منعتها من ممارسة سيادتها الكاملة فوق أراضيها في سيناء. وأخرجتها من دائرة الصراع مع الصهاينة، عبر حل منفرد، لم يأخذ بعين الاعتبار المصالح القومية، ولا حقوق الشعب الفلسطيني. واتسمت علاقات الكيان الصهيوني بمصر، باستقرار لم تعكره الأحداث العاصفة التي شهدتها البلدان العربية، في أكثر من ثلاثة عقود، مثّلت الحقبة التي أعقبت توقيع المعاهدة المصرية- الإسرائيلية.
لقد حالت معاهدة كامب ديفيد دون استثمار مصر، لعمقها العربي الاستراتيجي، وعدم التزامها باتفاقيات ومواثيق جامعة الدول العربية المتعلقة بالأمن القومي العربي الجماعي. وكان عقد الثمانينيات قد اتسم بعربدة إسرائيلية غير مسبوقة، شملت ضرب مفاعل تموز العراقي، وغزو لبنان والعدوان على تونس، واغتيال القادة الفلسطينيين. وشهدت تلك الحقبة، الحرب العراقية - الإيرانية، وهي أطول حرب في تاريخ العرب الحديث.
ومع الفراغ الذي تركته مصر، في الصراع العربي - الصهيوني، وترحيل الفلسطينيين، إلى أقطار عربية، كاليمن وتونس، بعيداً عن مركز المواجهة في فلسطين، وتراجع انتفاضة أطفال الحجارة في نهاية الثمانينيات، وانشغال العرب بحرب الخليج الثانية، وجدت التيارات الإسلامية المتشددة فسحة لتوسع دائرة تحركها. وكان صعود «حماس» إلى الواجهة في قطاع غزة وبدرجة أقل في الضفة الغربية، هو تعبير عن تراجع دور التيار المدني في النضال الوطني الفلسطيني، لمصلحة جماعة الإخوان المسلمين.
اختزل الدور المصري - الفلسطيني، في عهد الرئيس مبارك، في دفع حركة المقاومة نحو القبول بخط التسوية. ولعب دور الوسيط بين الأطراف المتفاوضة من الفلسطينيين والإسرائيليين، وإيجاد مخرج من حالة الانقسام بين فتح وحماس . وقد واصل الرئيس مرسي هذا الدور، من خلال العلاقة العقدية مع حماس، فرعى اتفاق وقف إطلاق النار بين الإسرائيليين والفلسطينيين في حرب غزة الأخيرة، وأصبح ضامناً لهذا الاتفاق.
بسقوط حكم الإخوان، لم يعد للحكومة المصرية المؤقتة، التأثير الذي امتلكته حكومة الرئيس مرسي في حماس. ومن جهة أخرى، فإن الوضع السياسي لحركة حماس لم يعد بذات القوة التي كان عليها إبان سيطرة جماعة الإخوان على السلطة. لقد خسرت هذه الحركة حليفاً استراتيجياً، وأصبح وضعها في الصراع مع فتح ضعيفاً. وقد عكس هذا الواقع ذاته على الموقف الفلسطيني، ليتطور الصراع الفلسطيني - الفلسطيني إلى انقسام بالموقف إزاء أحداث مصر الأخيرة. فبينما أيدت فتح بالضفة الغربية هذا التغيير، أدانته حماس في قطاع غزة واعتبرته انقلاباً على الشرعية، وأعلنت دعمها للرئيس المعزول محمد مرسي.
تطورات الأحداث وبشكل خاص، هيمنة قوى التطرف الإسلامية من المنتمين إلى تنظيم القاعدة على أجزاء من سيناء، تطرح علامات استفهام على مستقبل معاهدة كامب ديفيد، بين مصر و»إسرائيل»، وهل بالإمكان صمودها أمام الاهتزازات التي يتعرّض لها الأمن القومي في مصر.
بالتأكيد لا يتوقع أحد أن تخضع القيادة المصرية الجديدة، لنصوص جامدة وردت في تلك المعاهدة، هدفت إلى تحقيق أمن الصهاينة، وحدّت من ممارسة مصر لسيادتها على سيناء. فالمطروح الآن هو إما الالتزام بنصوص معاهدة كامب ديفيد كما وردت، والقبول بسطوة الإرهاب، وتمدده إلى مختلف الأراضي المصرية، أو الانتصار لمبدأ السيادة، وعدم التقيد بنصوص المعاهدة.
وهناك أيضاً، تخوف من تقاطع داخل الخنادق، بين موقفي مصر والكيان الصهيوني تجاه حركة حماس، بعد تدخل الأخيرة، لنصرة جماعة الإخوان، واتهامها بالتورط في أحداث العنف التي أدت إلى قتل متظاهرين مصريين ضد حكم الرئيس المعزول. ويضاعف من هذا التداخل، أن الاتصال بحماس من قبل جماعة الإخوان المسلمين، أصبح تهمةً بالخيانة العظمى، حسب القوانين المصرية. وتلك هي إحدى التهم التي يواجهها الآن الرئيس المعزول.
وضع حركة حماس المرتبك، التي آثرت الوقوف ضد إرادة الشعب المصري، وضعها بين فكي كماشة، وحجب عنها تأييد الجمهور الفلسطيني، الذي رأى في مواقفها ترجيحاً لانتماءاتها العقدية على حساب القضية الفلسطينية، التي يفترض أن تكون مبرر وجودها، كحركة مقاومة ضد الاستيطان والاحتلال الصهيوني، وأيضاً على حساب العلاقة التاريخية بين الشعبين المصري والفلسطيني. وقد كان لهذا الموقف المرتبك والمتسم بالتسرع، إسقاطاته السلبية المباشرة، على مصالح الفلسطينيين، حيث تسبب في إغلاقات متكررة لمعبر رفح، بوابة الفلسطينيين الرئيسة على العالم.
ويرى كثير من المراقبين، أن استمرار وجود حماس هو رهن لخيارين لا ثالث لهما. الأول، هو التسريع بعملية المصالحة الفلسطينية، والاندماج بالضفة الغربية، وإنهاء حالة الانقسام. وذلك سيقوي من الأوراق التفاوضية، التي لا تكاد توجد لدى السلطة الفلسطينية. والآخر، إشعال حرب أخرى مع الكيان الصهيوني، لكسب التأييد الشعبي، ينتج عنها خلط الأوراق، وتدخّل قوى إقليمية عربية، قد تكون مصر بينها على الخط. لكن نتائج هذه الحرب، لن تكون مضمونة وقد تودي بحركة حماس، وتخرجها إلى الأبد من الساحة الفلسطينية.
ويبقى موضوع الارتباك الصهيوني، إزاء تطورات الأحداث في مصر من دون مخرج، وأرض الكنانة حبلى بالمفاجآت، وليس علينا سوى الانتظار.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4017 - الخميس 05 سبتمبر 2013م الموافق 29 شوال 1434هـ