كلما تعقَّدت ملفات، واشتعلت خرائط في مكان ما؛ وخصوصاً حين تكون ضمن محيط القطْر؛ كلما استفردت سياسات دول وأنظمة قمعية بمعارضيها، وتفنّنت في التنكيل بهم، وزيادة جرعات توهّم الإذلال والتضييق عليهم. تلك البيئات لم تشتعل من فراغ. اشتعلت من السياسات نفسها التي نحن في صددها. اشتعلت بفعل الاستئثار والتمييز وتوهّم أن القوّة والبطش يمكن أن يحقّقا استقراراً طويل الأمد؛ بل وأبعد من ذلك، يمكن أن يخلقا استقراراً مؤبَّداً.
محاولات الاستفراد استغلالاً لذلك التعقيد والاشتعال لا ذرّة حكمة فيه؛ على العكس هو تورّط بغباء وتخبّط وضياع للجهات عدا انعدام البوصلات.
***
لا أدري، لماذا تغيب الحكمة حين يتعلق الأمر بحقّ الناس في العيش بكرامة وحرية مسئولة؟ لا أدري ما هو الخطر الماحق الذي سيمسّ من بيدهم الحلّ والعقد والهيمنة وإدارة شئون البلاد والعباد، حين يحرصون على استقرار محيطهم كي يستقروا هم أيضاً.
هل في الاستقرار تهديدٌ وخطر؟ سؤال يبدو ساذجاً؛ أليس كذلك؟ لكن من واقع التجارب، هو كذلك. هنالك من يريد إشغال الناس بالتوافه حيناً، والتناحر فيما بينهم حيناً آخر؛ كي يتوهّم ضمان استقراره وانشغال العالم عنه.
الاستقرار هنا تهديد وخطر وفي العمق. لكن مثل ذلك التوجّه إلى هكذا نوعية من الخلاص يكشف عن مأزق وورطة الذين يتبنّوْنه. مأزق يطول قبولهم وانسجامهم والإجماع على حضورهم. لا تفسير آخر يمكن أن يخطر على البال غير ذاك!
***
تتصرّم السنوات. تنشغل أمم في إنجازها الإنساني والحضاري. تعمل على الإضافة في هذا المحيط البشري المتلاطم ببشره؛ كي تضمن لها مكانة وتميّزاً وأثراً وقدرة على الإمساك بقياد القرار والمصير في العالم.
في الجانب الآخر، ثمة أمم مبتلاة بمن لا يتيح لها قيمة وأثراً يُذكر؛ بفعل سياسات تُعيد الإنسان إلى ما دون قيمة البهائم والأشياء. مبتلاة، من دون أن يعني ذلك ركونها واستسلامها لذلك الواقع المليء بالكوابيس، والمليء بما يجعل البقاء على هذا الكوكب ضرباً من استعراض البشر في سوق نخاسة من نوع آخر!
بالنظر إلى واقع الجانب الآخر، لاشيء يمكن الوقوف عليه، تفسيراً وتبريراً له سوى أن الاستقرار منعدم لدى بشره، ولا يراد لهم أن يعرفوا إلى الاستقرار طريقاً؛ إن بشكل أو آخر، وتحت عناوين ومسمّيات وتبريرات وتخريجات لها أول ولن يكون لها آخر.
هو نفسه الاستقرار الذي يرى فيه بعضهم تهديداً لمكتسباتهم ووجودهم وما تحصّلوا عليه. مثل تلك القناعات التي تجد طريقها في تبني السياسات المُهلكة والمُنهكة لطاقات الأمة، لن تقود في نهاية الأمر إلا إلى مزيد من الخسارات، ومزيد من التشرذم، ومزيد من الدوران في الحلقات المُغلقة. ولا حلقات مغلقة قادت حتى قطيعاً للوصول ولو إلى علَفه؛ عدا الوصول إلى قيمته الحقيقية، وتفعيل طاقاته وإمكاناته، وترجمتهما في صور إنجازات لا تمسّ تفاصيل حياته فحسب؛ بل تمتدّ ليلمس أثرها المحيط البشري، اتسعت دائرته أو صغرت.
***
المجموعات، وحتى الأكثرية التي تعاني من عُقد، وتمرّ بمراحل من الاستلاب والفشل وحتى الهامش، بالنظر إلى من وما حولها، هي التي تجد في الأقليات العرقية تهديداً لها؛ بدل أن تجد فيها غنى وإثراء وإضافة لها.
الدول والأمم التي تحمل شيئاً من الاحترام لذواتها وقدراتها وإمكاناتها لن ترى شيئاً من ذلك متورطة فيه ومتهافتة عليه: إقصاء الأقليات واستهدافها، والعمل على تهميشها واستلابها. لا يحدث إلا في البيئات المتخلّفة؛ ليس على المستوى المديني والحضاري فحسب؛ بل على المستوى الأخلاقي، وأحياناً في تراجع مكشوف وفاضح عن منظومتها الأخلاقية التي كثيراً ما تستند إليها «سرْداً» وتفاخراً؛ بينما هي على مبعدة منها بعد المشرق من المغرب!
***
بالعودة إلى ما تصدّر هذا المقال: كلما تعقَّدت ملفات، واشتعلت خرائط في مكان ما؛ كلما استفردت سياسات دول وأنظمة قمعية بمعارضيها، يقودنا ذلك الأفق المنعدم - تأكيداً - والانطلاق في التعاطي مع المشكلات والأزمات بعقلية الاستهداف؛ وإما أن تكون أو لا تكون. كل ذلك ضمن البيئة الواحدة والمجتمع الواحد؛ وإن تعدّد بأثنياته وألوانه وتوجهاته. مع انعدام الأفق لا يمكن النظر إلى التعاطي مع المختلف باعتباره إضافة؛ بل باعتباره تهديداً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4009 - الأربعاء 28 أغسطس 2013م الموافق 21 شوال 1434هـ
هل في الاستقرار خطر
نعم عندما تلبى طلباتك المعيشية اليوم ستنتقل إلى طلبات أوسع واكبر ولذا من واجبي أن اقطع الطريق عليك واجعلك تنشغل بتوافه الأمور كما تنشغل بقوت يومك وقطره المياه التي يحتاجها أطفالك لسد رمقهم
من نعم الله وليس نقمه
انعم الله على امتنا الاسلاميه بنعم لا تعد ولا تحصى من عقول فذه وفلوب مؤمنه بالمبادئ والقيم الافراط في النعصبات والاستفراد بالثروات لفئه معينه والتفضيل فئه على حساب الفئه هو ما يقود الى الحروب و الخلافات