هناك مقولة سائدة ومؤكدة تنص على أن كل حكومات العالم سواء الملكية أو الجمهورية، وفي كل الدول، تمارس سياسة واحدة شعارها «لكي تحكم المجتمعات فاحكم أولاً جامعاتها». وكل حكم جديد لكي يظهر قوته يفرض سيطرته الكاملة على الجامعات والنظام التعليمي.
ولقد طُبّقت هذه المقولة بحذافيرها في معظم دول العالم، ومن أجل أن لا تمارس مملكتنا الفتية هذا السلوك، فالمطلوب أن تحقق لجامعتنا الاستقلالية الكاملة حتى تأخذ أدوارها في تعزيز المواطنة وتخرج شباباً تعلموا -إضافةً إلى المناهج التعليمية الجامعية- السلوك الديمقراطي عبر حقّهم في إنشاء منظماتهم الطلابية المستقلة؛ وكذلك يمارس سلك التدريس فيها ذات السلوكيات وحقهم في إنشاء منظماتهم النقابية المستقلة، وأن يقيموا فعالياتهم وينفذوا احتجاجاتهم الحضارية ويتفاعلوا مع قضايا الشعب الوطنية والقومية.
لا تزال الجامعة تتبع نظاماً مقفلاً على نفسها، وتقليدية في أساليب تعليمها، لم تنفتح بالقدر الكافي على محيطها الاجتماعي ولم تهتم كما يجب بالتفاعلات الخارجية الحاصلة خارج أسوارها، رغم محاولاتها البسيطة، إلا إنها بحاجةٍ أن تأخذ أدواراً أكبر في التفاعل مع المجتمع وقضاياه، ذلك أن التجربة كشفت أن الأجيال الشابة التي عاشت في الجامعات الحية والمتفاعلة مع المجتمع هي التي لديها ملكات التفكير المستقل والعقل النقدي الحاضر دائماً أمام المستجدات، والمتعاطفة والمتفاعلة مع مشكلات وحاجات مجتمعاتها. أما الأجيال الشابة التي تخرجت من الجامعات المنغلقة على نفسها فدورها وتأثيرها على المجتمع كان محدوداً ومحصوراً في الجوانب التخصصية فقط.
أما على الصعيد الأكاديمي، فخيرٌ للدولة أن ترفع سلطاتها الإدارية عن الجامعة، فهي ليست مؤسسة إنتاج كالمصنع، ولا مؤسسة خدمة زبائن كالمستشفى أو مكتب بريد. الجامعة بيئة علمية ومجتمع أكاديمي منفرد بذاتيته، رغم النقص الموجود فيها، إلا أن رجالها هم الأقدر على تعريف أمورها تشريعاً وتنظيماً وتسييراً وتطويراً، فالبحث العلمي الموضوعي والنقد الحر وإعداد الدراسات الميدانية الاجتماعية وفتح كليات الحقوق والفلسفة والاقتصاد والاجتماع، والانفتاح على المجتمع والسماح للأكاديميين بالكتابة في الصحف وإقامة الندوات، كلها ركائز مهمة لتعزيز المواطنة والمشاركة الفاعلة بين المؤسسات التعليمية والمجتمع.
على طريق الديمقراطية
من أجل إنهاء أزمة (وليست مشكلة) ممارسة الديمقراطية في الأنساق التعليمية، يتطلب ذلك دعم وعي الفرد بحقوقه، وحث هذا الوعي للانطلاق أساساً نحو تفعيل كل آلياته مهما تواضعت لبلوغ الحق، فالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية لا يمكن أن تكون لها جدوى بمجرد إيمان الدولة بها، ولا بوضع القوانين، بل لابد أن يتوازى مع ذلك وعي كل فرد بحقوقه الأساسية وممارسته لها في سلوكه اليومي، وذلك عبر الوسائل التالية:
-وجود منظمات طلابية مستقلة في الجامعات، وكذلك المنظمات النقابية الأكاديمية.
-انتخابات حرة لاختيار رؤساء الأقسام وعمداء الكليات من قبل زملائهم.
- وجود مجتمع مدني حر ونشط تتفاعل معه الجامعات.
- وجود مجتمع سياسي مستقل نسبياً يطرح رؤيته مقابل رؤى الحكومة.
فضلاً عن كل ذلك هناك مجموعة من الأهداف والمبادئ العامة التي تتبناها الجمعيات السياسية وهي ذاتها جزء من أو من المفترض أن تكون جزءًا من المناهج الدراسية، ولابد من إيجاد صيغة تشاركية بين الطرفين لتعزيزها في وعي ووجدان وسلوك الطلبة، منها على سبيل المثال (القضايا الخاصة بحماية البيئة ومقاومة التلوث ومحاربة الفساد واحترام القانون وتطبيقه على الجميع دون تمييز). دور المرأة ومساواتها بالرجل، وتوفير المتطلبات الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع، وإعادة قراءة التاريخ الوطني للبلاد والتصالح مع التاريخ الذي لم يكن مسموحاً به أو غير معترف به، وغيرها من القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية والفنية.
عبر هذا التفاعل الجدلي بين مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية سوف نتمكن من تعزيز المواطنة، ونكرّس قيم المشاركة والانتماء في صفوف الأجيال الصاعدة في المجتمع البحريني.
التوصيات
على مستوى السلطة، هناك حاجة إلى منهج لإدارة التعددية المذهبية يقوم على أسس عدة أهمها:
- تعزيز مبدأ المواطنة الذي يعلو جميع اعتبارات وفوارق الدين أو المذهب أو العرق، ويتساوى في ظله المواطنون في توزيع الثروة والسلطة، فإن أخطر مشاكل الدولة العربية الحديثة بعد الاستقلال، خصوصاً في منطقة الخليج، هو الاهتمام ببناء الهياكل والمؤسسات وليس بناء الأمة المترابطة التي يشترك أبناؤها في الانتماء إلى وطن واحد، ولذلك ما أن تنهار هذه المؤسسات أو يتم تهديدها حتى يتضح غياب الأمة التي تتأسس على المواطنة.
- ما يؤكد أهمية المواطنة باعتبارها الأساس الجوهري لسلامة واستقرار المجتمعات العربية ذات التعددية المجتمعية، أن تجارب «الديمقراطية التوافقية الإثنية» على الساحة العربية سواءً في لبنان أو السودان أو العراق بعد 2003 لم تحقق الاستقرار، ولم تخلق نظماً سياسية فاعلة، فضلاً عن أنها هدّدت الدولة الوطنية، حيث أثبتت التوافقية الطائفية عدم قدرتها على تقديم حل لمشاكل التنوع الإثني في المجتمعات العربية التعددية، بل إنها ساهمت في زيادة الحواجز النفسية بين الإنثيات المختلفة وعززت مشاعر عدم الثقة المتبادلة بين أطرافها.
- إن البديل عن الديمقراطية التوافقية الطائفية هو «الديمقراطية التكاملية» التي تقوم على أسس عدة أهمها المواطنة، الحياد الطائفي في صنع السياسات العامة، إيجاد مؤسسات عابرة للطائفية والأثنية، تشكيل نظام انتخابي يسمح بالتصويت السياسي وليس الطائفي.
- الإدراك أن الانتماءات الطائفية والمذهبية واقعٌ لا يمكن تجاهله أو الفكاك منه، لكنه ليس واقعاً سلبياً إذا تمت إدارته بشكل سليم، إذ يمثل التنوع المذهبي أو الديني أو العرقي أو الثقافي في أي مجتمع مصدراً لثرائه إذا ما توافرت الأسس الكفيلة بتحقيق التعايش بين المكونات المختلفة فيه، بعيداً عن توجهات التمييز والإقصاء أو التخوين أو التكفير.
-التفريق بين الولاء والتقليد، والولاء للوطن والولاء للنظام، فهناك مرجعيات دينية يتم الالتزام المذهبي بفتاويها وذلك من قبل كافة المذاهب، في حين المطلوب التركيز في الولاء للوطن وليس للنظام السياسي الذي تطالب الحركات السياسية بشتى تياراتها بما فيها الإسلامية السنية منها والشيعية بالإصلاح والتغيير الذي يجب عدم ربط هذه المطالبات السياسية بالتشكيك والتخوين للوطن.
- ضرورة القضاء على جميع أشكال التمييز سواء في وسائل الإعلام أو مناهج الدراسة أو على المستوى الديني/ المذهبي، فضلاً عن العمل على تغيير المفاهيم الخاطئة والصور الذهنية المشوهة عن المذاهب والطوائف والعرقيات.
وأخيراً... إن دور مناهج التعليم والتربية أصبح مهماً وضرورياً لتجسيد هذه المبادئ والثوابت المذكورة في هذه التوصيات بحيث تكون بمثابة توجهات ورسائل واضحة لأية استراتيجية وطنية تعليمية تعزّز قيم المساواة والعدالة والتسامح والتعددية وحقوق الإنسان. (انتهى)
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 3987 - الثلثاء 06 أغسطس 2013م الموافق 28 رمضان 1434هـ
اهمية التسامح في المناهج
شكرًا على هذا المقال التربوي والاجتماعي والسياسي الناجح ، لكن للأسف الشديد ان هذه التوصيات التي ذكرتها أيها الاستاذ الفاضل بعيدة كل البعد عن مجتمعاتنا الخليجية بالذات ، فهم غي واد وهذه القوانين والاتجاهات التربوية في واد أخر