المتتبع لأحداث المنطقة بصفة خاصة والعالم بصفة عامة يخرج باستنتاج مفاده أن الوسطية والحوار هما في الغالب المحصلة النهائية لكل صراع، بعد أن ينهك المتحاربون ثم يقتنعون بأن الحل لا يكمن في الاحتراب. ومن المؤسف له حقاً هو أن جلّ المتصارعين لا يدركون عادةً جدارة الاعتدال إلا بعد أن يدفعوا فاتورة العنف الباهظة. فهل بإمكاننا الاستفادة من تجارب من سبقونا لتجنب الخسائر واختصار الطريق؟
يتناول هذا المقال أهمية الوسطية والاعتدال في تحقيق الاستقرار والبناء والتنمية، ويستعرض وسائله اللازمة لإدارة عملياته وبرامجه. فالحراك السلمي مثلاً، أهلياً كان أو رسمياً، ليس شعاراً أو بياناً أو نوايا حسنة فقط، بل هو تجسيد لقناعة وتحويلها إلى واقع ملموس من خلال برامج فعالة يطبقها الطرفان على أرض الواقع. كما أن أي حراك سلمي لا تدعمه عقلانية تقرأ الجغرافية والتاريخ والميراث الثقافي بشكل واقعي، ينتهي به المطاف إلى المواجهة والصدام بشكل حتمي بسبب الفجوة الواسعة في التوقعات بين الفرقاء.
كما يتطرق هذا المقال إلى تداعيات غياب الحل السياسي ومن بينها العنف كأداةٍ يستخدمها كل طرف بطريقته الخاصة، سواءً من خلال إشاعة التطرف أو نشر خطاب الكراهية أو إثارة الهمم بطريقة عفوية، أو الفرقة بصورة منظمة.
لماذا السلمية والاعتدال؟
الحراك السلمي هو أكثر الوسائل فعالية في إعادة التوازن لإدارة المجتمع بشكل عادل وسليم، لكونه يتناسق مع قوانين المجتمعات ومع الأعراف والمواثيق الدولية. ولكونه كذلك، تسعى بعض الجهات التي لا ترغب في مثل هذا التوازن إلى احتضان وتشجيع قوى التطرف من أية جهة كانت، أملاً في قطع الطريق أمام الاعتدال والسلمية وحرفها عن تحقيق أهدافها. فلا يوجد ما هو أكثر إيذاءً لقوى العقل والاعتدال من التصلب والمكابرة وقلة الخبرة، وخصوصاً إذا ما تغافلت قوى الاصلاح أو أساءت تقدير مخاطر عدم تحويل الحراك السلمي إلى برامج عملية ملموسة، والتجارب العالمية والإقليمية غنية بحوادث تدلل على صحة هذا الاستنتاج.
ولكون الاعتدال وتبني الحراك السلمي لتصحيح مسار أو إصلاح اعوجاج هو نهج تقره المواثيق العالمية وتدعمه المنظمات الدولية والدول الديمقراطية، فإن محاصرته ليس بالأمر الهين كما هو الحال عليه بالنسبة لمنهج العنف. وعلى الجانب الآخر فإن لجوء أية جهةٍ لمنهج القوة والعنف ضد قوى الاعتدال والسلمية يضعها في مواجهة مع المجتمع الدولي برمته ويعزلها حتى عن أقرب حلفائها. لهذا السبب تشجع بعض الجهات نهج التطرف بين مناوئيها بل وتحبّذ زرع عناصر التطرف في صفوفها لانحسار أي تعاطف محلي أو دولي معها، وهكذا تتخلص من الضغوطات الخارجية وتسهل عملية الإجهاض على الخصم.
إن السلمية ونبذ العنف كشعار أو وثيقة، لا يكفي بحد ذاته لخلق ثقافة السلمية في المجتمع لكون منهج السلمية هو سلوك وقيم وثقافة مجتمعية يتطلب غرسها برامج تثقيفية دائمة لا تقتصر على منتسبي التنظيم الأهلي أو الرسمي فقط بل تشمل كافة أفراد المجتمع الذين بوعيهم بأهمية هذا المنهج يصبحون قوى داعمة لأي حراك وطني سلمي.
إن تبني أية جهة لثقافة السلمية على هذا المنحى يعكس الالتزام الحقيقي لسياسة وشعار نبذ العنف والذي ينعكس بدوره على حجم الثقة في التنظيم ومصداقيته في الداخل والخارج. فمشاركة خبراء من حكومات أو منظمات دولية مثلاً في هذه المهمة تضع أي تنظيم في مرتبة تعزز من وضعه واحترامه على جميع المستويات، وتدحض أية محاولة لوصمه بغير ذلك.
إن الأحداث المتسارعة في بلادنا تسير باتجاه التصعيد والعنف الذي هو واحد من تداعيات أفرزها غياب أفق الحل السياسي الناتج عن الفجوة الكبيرة في التوقعات بين أطراف النزاع. فعندما يمسك كل جانب بنهاية الطرف في تجاهل للواقع فإن الحوار من أجل التوافق يصبح غير ممكن. وعوضاً عن ذلك يحكم كل طرف بقبضته على رقبة الآخر لخنقه كما نراه ماثلاً أمامنا من دعوات للتسقيط من طرف، وأخرى للعقاب الجماعي والتنكر لأبسط حقوق المواطنة من قبل الطرف الآخر، وبهذه الطريقة غير العقلانية تحلّ المواجهة محل المصالحة والتوافق.
إن وطننا على أبواب فتنة لعن الله من أيقظها، فعلى عقلاء القوم التحرك لوأدها. فهل تنحني الأطراف المختلفة لتمر العاصفة بسلام أم نعيد إنتاج الأزمات فيدفع الوطن ضريبة التصلب والوهم وقلة الخبرة، وغلبة منطق القوة مرة أخرى؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة القادمة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 3977 - السبت 27 يوليو 2013م الموافق 18 رمضان 1434هـ