لا أحد يملك جرأة تسفيه العقل. العقل الذي نعرف. العقل الذي يُحدث هذا التراكم في الإنجاز، والمُذهل من الكشف، والرصين والعادل في التعاطي مع الحقوق، وتفحّص الواجبات؛ لكن أن يكون العالم اليوم مُداراً من قبل الذين يدّعون العقل واحتكارهم له؛ فيما هم يمارسون أدنى درجات الجنون، فمثل ذلك التسفيه لمثل ذلك العقل هو قمة العقل وغاية الحضور!
***
لدى المحصّنين من وباء «الهراء» حساسية من فوضى وردْح الخطابات الرسمية العربية التي نشهد ونعاين. المشكلة أن الإعلام الرسمي العربي يقدّم تلك الخطابات باعتبارها نصوصاً مقدَّسة؛ وإن لم يتجرأ بالتصريح بذلك؛ لكن طبيعة التعاطي وتقديم وفرْض تلك الخطابات في ساعات بث متقاربة، يوحي؛ بأخطر من النص بمراحل؛ بأن ذلك الهراء تم تعميده بالممارسة بقداسة لا أدري من أي منفذ بيع بالجملة والمفرق تم إقرارها! تلك نوعية بسيطة من «العقل» الذي يُفرض على الناس كما يفرض المضاد الحيوي في ساعات محددة!
***
الشاعر البلجيكي موريس مايترلنك (1862-1949) في كتابه «حياة النمل»، يطرح هذه التساؤلات، وهي عند بني البشر مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعقل وتدبيره وتنفيذه ونفاذه في البسيط والمعقد من الحياة؛ مواجهة أو طمأنينة وسكوناً: «من الذي يُصدر الأوامر؟ يتوقع المستقبل؟ يرسم المخططات؟ يوازن؟ يدبّر؟ ويعاقب على الموت؟
تلك أسئلة تؤرِّق علماء الأحياء في مستعمرات للحشرات، ولا يُراد لمثل تلك الأسئلة أن تكون حاضرةً أو حتى ما يدل عليها في عالم الإنسان الذي تحوَّل إلى مستعمرات؛ فقط لأن العقل يُراد له أن يكون خارج الكادر، وخارج المشهد وخارج السياق.
***
كأن عقل العالم، بالسياسات التي نشهد، في قفاه. كأن لا عقل يمكن تلمّس حضوره في هذه الملهاة، والكارثة في الممارسة.
لا يمكن لعقل تترّس بضمير ينتج عنه ما نتج: بؤس لا أفق يدل على نهايته، ومظالم صارت جزءاً من العرف والعادات والتقاليد و»الشيم» المُحدثة، وفساد بات هو ملح الأرض والهواء، واستئثار حدَّ التفكير في تسييج وتسوير السماء في المستقبل.
لا يمكن لكل ذلك أن يكون نتاج عقل يتوخّى العادل والجميل والمبهر. هو نتاج النقيض من ذلك.
***
حين يُقتل البشر باسم الدِّين؛ لا تنتظرنّ من المتفرج، الآخر، المقابل لذلك الدّين، أن يقرَّ بوجود عقل أساساً في ذلك الدّين. ذلك استنتاجه وفهمه. لن تجبره على التفريق بين الدّين وبين الذين يتحدثون باسمه ويدّعون تمثيله. الدّين جاء ليعمّق العقل وإمكاناته؛ وليتيح له مزيجاً من هدوء الداخل (السكينة) في مواجهة الضجيج والعدْو وراء العدم؛ وعقل قادر على إسعاد العالم؛ على الأقل كل في عالمه الذي يتحرك فيه ومن خلاله.
لا يمكن لدين يضع العقل على رأس أولوياته؛ باعتباره المدْخل الرئيس لتقديم نفسه، يقرُّ ممارسات لا تهدِّد العقل من حيث هو عقل فحسب؛ بل تهدِّد الحياة بأسرها، والتي هي هدف وموضوع العقل، من حيث الإعمار والانتشار والتعارف والتآلف وتقديس قيمة الإنسان الذي هو منطلق الأديان أساساً وموضوعها؛ لأن الإنسان مُقدَّم على الأديان.
***
وأنا أكتب هذا المقال على مراحل استوقفني عنوان رئيس التحرير«قبل إعادة إنتاج المآسي»، لا تُنتَج المآسي من عقل واضح الرؤية والهدف ويتوخّى الخير والسلام والطمأنينة والتنمية وشيوع العدل وغلبة الحقوق والحرص على الواجبات. تنتج عن تغييب العقل؛ وبالضرورة غياب الضمير أو تغييبه؛ لتنتقل الأمم وحتى الأفراد بعد التماهي مع تلك المآسي واعتيادها، إلى مرحلة؛ بل مراحل إعادة إنتاجها، وفي ذلك إهدار لأعمار الناس، وما يمكن أن ينتج ويتحقق من خلال تلك الأعمار، نكوصاً وتراجعاً وارتداداً عمّا أُنجز وتحقق. كل ذلك بفعل مطامع آنية هي إلى زوال؛ مهما طال أمد التمتّع بها؛ على حساب عقل يرتّب الحياة وينظم شئون أفرادها، تحقيقاً لسعادتهم ورفاهيتهم واستقرارهم.
***
في كل خلل ونوائب الحياة واضطرابها؛ يكون العقل غائباً أو مُغيّباً، ولا يُراد له أن يكون مُحكّماً في تفاصيل الناس وحيواتهم. يُراد له أن يكون موارى، ومُبعداً؛ ويُراد للشهوة والتسلّط والبغي أن يكون المُحكِّم في كل ذلك؛ ولا عقل لشهوة وتسلّط وبغي.
وفي كل استقرار وطمأنينة ورفاهية وسعة أرزاق وإبداع ماثل وابتكار يتراكم وحقوق مصونة؛ يكون العقل في أجلى صحواته وحضوره والاحتكام إليه؛ في رصد ضمير يوجّهه ويُفرْمل تهوّره حيناً؛ ونكوصه حيناً آخر.
بعبارة أخرى: فتّشْ عن العقل حين تضطرب الحياة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3974 - الأربعاء 24 يوليو 2013م الموافق 15 رمضان 1434هـ
جميل
طرح رائع لموضوع شائك في زمن الا عقل ! شكرا لكم
الاختيار الامثل
يجب على العاقل اختيار الاحسن لنفسه ولمجتمعه ولا سيما اذا كان شخصا مسئولا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته
العقل عضو فى الجسم
العقل الذى تكرر فى المقال ليس الا عضوا من أعضاء الجسم. حاله حال المعدة و الرئتين و القلب. لديه صفات و وظائف. حاله حال الرئة يحلل الهواء الذى يدخل فيه و اذا كان ساما يقتل صاحبه. العقل شبيه بجهاز الحاسوب يعمل حسب البرنامج الذى أدخل فيه. الا أنه يتأثر بالعاطفة و يلخبط البرامج على عكس الحاسوب. لذلك العقل الذى يكدس المعلومات و ثم يخرجه يختلف من شخص الى آخر و من أمة الى أخرى. لا يمكن الإعتماد على العقل البشرى و أخذه قاعدة و قانون ثابت لتنفيذ الأموربسبب تاثره بالعوامل الخارجية دون أن يدرك ذلك. كالمجنون
العقل
نعم بالعقل نعيش الحياة صح بالدارين وهي اول نعم الخالق علينا والمميز بيننا وبين الانعام ولكن هناك مغيبات للعقل مثل الغضب والدكتاتوريه والجهل وما ادراك ما الجهل هذا الوباء الله يكفينا شره ف كل زمان ومكان . خاتون