العدد 397 - الثلثاء 07 أكتوبر 2003م الموافق 10 شعبان 1424هـ

ثقافة السِّلم والتعارض... ثنائيَّة بحرين المستقبل

مشهد «التصويت على الميثاق» نموذجا

سلمان عبدالحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب

كنا في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات، وقد خرج للتو «أصحاب المبادرة» من السجن، وكان الحديث يدور بين الناس في ذلك المسجد عن العفو عن المساجين كافة، وخصوصا بعد زيارة جلالة الملك منطقة «سترة» والتقائه الأهالي، ووعده القاطع بالإفراج عن المسجونين، المصلون تجمعوا بكثافة في ذلك المسجد لسماع آخر أخبار الساحة البحرينية وقصة الإصلاح التي بدأت تدبُّ وتنمو على هذه الأرض و«الميثاق» الذي أثار جدلا حول التصويت وعدم التصويت عليه في الأوساط المعارضة تحديدا في الداخل والخارج. صلى المصلون خلف الرمز، وقلوبهم لهفة وسؤال لله ومن يناجيه في المحراب ويسأله «كشف الغمة، عن هذه الأمة، بحق محمد وآله سرج الظلمة»، فتوحدت الصلاة بالأشواق، وخشعت القلوب بانتظار الآتي.

فرغ المصلون من صلاة العشاءين، ولم يفرغوا من صلاة اللهفة، فالأسئلة على الشفاه والعيون تنطق حيرة في فضاء المناجاة والتسبيح والذكر، وضعت طاولة مع كرسيين في فناء المسجد بالقرب من المحراب ليتذكر الحاضرون أنهم للتو فرغوا من الصلاة، فلا ينسون ما سيخطه القدر.

قام رمزان سياسيان للحديث مع الناس بعد اجتماع دار عصرا مع القيادة السياسية، فانهالت الأسئلة عليهما من كل حدب وصوب، إذ مازال هناك بعض المعتقلين والمحكوم عليهم لم يفرج عنهم، وباغت أحدهم بسؤاله: إذا لم يفرج عن المعتقلين والمحكوم عليهم، هل نصوّت على الميثاق؟ انتابتني خفقة كبيرة في صدري، وبدأت أترقب الإجابة أكثر من السائل، إلا أن الرمز قطع انقباض القلوب بسرعة، وأجاب: نعم، صوتوا على الميثاق، فالتصويت على الميثاق لا علاقة له بالإفراج عن المسجونين، الميثاق مشروع وطني يجب إنجاحه، وقد وعدنا جلالة الملك بالإفراج عن المسجونين قبل التصويت عليه، فإذا تأخر إطلاق سراحهم سنتفاوض مع القيادة السياسية بشأنهم، ولن يتأخر إطلاق سراحهم كثيرا».

إلى هنا، وانقطع السحر، والكلام الذي يتدفق عزما وإصرارا ونفاذ بصيرة، ويزن الأمور بموازين الرجال، ويحمل مسئولية الكلام إلى أهله وناسه حتى لو لم يعجبهم كلامه، إلا أن صدقه يجعل الجميع يذعن له، ويطأطئ رأسه تقديرا لوضوح منطقه وصرامته.

يتذكر المرء مثل هذا الكلام، في وقت يجد فيه الحملة مسعورة من قبل بعض الكتاب والصحافيين على الرموز السياسية والدينية، من دون أدنى إحساس بالمسئولية، وبكلام يشبه المجافاة والتنكر لما فعله هؤلاء من أجل الوطن، فهذا البلد ولله الحمد حظي برموز عقلاء حكماء يزنون الأرض في حكمتهم ورجاحة عقلهم، ولا يفرّطون قيد أنملة في أمن وسلامة هذا الوطن، وإن اختلفوا مع أي طرف، فهم محلّ فخر في إدارتهم الاختلاف، ولا يجعلون من أهدافهم السياسية، وما اختلفوا عليه فاصلا حادا بين استقرار الوطن وأمنه، وبين تحقيق الأجندة السياسية، إنما يفصلون فصلا طوعيّا شفافا ومسئولا بين أمن الوطن والأجندة السياسية مهما تكن مشروعيتها، في وقت تتلهف بعض النفوس إلى جنوح هنا وجنوح هناك، وتود سماع ولو إشارة صغيرة لتعبث ويطول عبثها.

النظرة الموضوعية إلى الواقع السياسي البحريني، تقتضي التأسيس لثقافة الاختلاف، بصفتها أهم عناصر التوجيه السياسي للساحة بكل تجاذباتها، إلا أننا لم نقطع شوطا كبيرا في هذا المجال، ما يجعلنا نعمد وبقصد إلى تكرار هذه المقولة مرات ومرات لترسخ في الأذهان، فإذا التقطتها تلك الأقلام ذات اللون الواحد، وإلا فإن الآخرين سيلتقطونها بكل تأكيد، وسيأتي ذلك اليوم الذي تُحَيِّدُ فيه كل تلك الأقلام نفسها، لأن الكثيرين قد تجاوزوها، فهذا المجتمع يكبر ولا يصغر، وبلاء الديمقراطية على هؤلاء أكبر من تشدُّقهم بها، لأنها آلية عقلائية لإدارة الاختلاف، تفرز المواقف باستمرار، حتى تكتشف الأنسب والأصلح والأنفع للناس.

لن يطول اتهام الناس بالتطرف والإرهاب، فالناس وادعون طيبون على كل حال، ومهما أوذوا يزيدهم الأذى تألقا ووطنية وتجذرا في هذه الأرض، ولأنهم أوذوا فإنهم لا يؤذون أحدا، ينبع إحساسهم بالطيبة والأريحية من إرث ديني عبق طاهر، يقبل فيه ذلك الرمز أن يحتفظ بسيف قاتل أبيه أمانة إذا ما ائتمنه عليه قاتله، ويبكي المقتول قاتليه لأنه سيكون سبب دخولهم النار، ووالله إننا لنبكي الوطن حين يكون حربة لاقتتال داخلي، وسهام اتهام وشك وريبة، حتى لو كنا نحن ضحيته، فهذا مورثنا الذي نعدله بأرواحنا، ونحن على هديه سائرون مطمئنون.

ما الذي يجعلنا نعدِل عن خيارنا السلمي؟ هل تغير شيء في الوطن لنتغير نحن؟ ما الذي يجعلنا نعدِل عن محبة الوطن؟ هل اختلافنا مع بعضنا بعضا يدفعنا إلى هذا الفعل؟ لا، فالاختلاف لا يفسد للود قضية؟ إلا إذا أراد البعض أن يكون الاختلاف كسر عظم، ومن يغلب من، عند ذلك سنكون الخاسرين جميعا.

أما الشعب، فليس إلى المعارضة بالكامل ولا إلى الحكومة بالكامل، ومن يدَّعي امتلاكه منهما، فعليه أن يتحمل تبعاته، من بطالة وضيق عيش وتذمر وتمييز، أما إذا لم يَدَّعِ أحد نسبته إليه، فسينحاز بالتأكيد إلى من يحقق مصالحه، وفي هذا المعيار الطرفان متساويان، ولا يجوز لطرف أن يعذل طرفا آخر على تحريضه لهذه الفئة الواسعة التي هي أساس لأنظمة مصالح تتلوّن باختلاف الأشخاص الذين يديرونها، فالناس لا تُحرَّض وبطونها شبعى، وتعيش آمنة مستقرة، لكن لقمة العيش قد تقود إلى الكفر، وهذا شيء بالنفس لا يمكن ضبطه أو تحييده، وإلا تحوّل الإنسان إلى حجر أصم لا يسمع ولا يشعر ولا يتكلم.

لذلك، فإن الرجاء من أصحاب الأقلام، ألا يصوروا البحرين جنة فيحاء وألا يصوروها نار جهنم، إنما نحن نعيش مشهدا برزخيا فيه من الأحلام والآمال ما يعطي المشروعية لنا في حركتنا، وهذا هو الأجمل، مشهد فيه أحلام تحتكر الجنة وحدها، وأحلام تأنس بالنار وتبترد فيها، وهناك وعدٌ بأيام لم نعشها بعد، ونحن على ثقة بأنها ستأتي لتنهي إحدى المعادلتين، وتؤسس لواحدة فقط، هي الجنة الموعودة و«أرض الخلود» تساوقا مع الحلم القديم.

ومن كل هذا الشروع في الحلم، يبقى أن ثقافة السلم راسخة في هذه الأرض رسوخ أهلها وتجذرهم فيها، وأن ثقافة الاختلاف والتعارض هي المعادلة الصعبة المقبلة، التي يجب أن يؤسس لها بكل حسم ومن دون مجاملة أحد فيها، لأنها ثمالة البرزخ ووقوده للسير فيه، وهي الوعد الأول بـ «الجنة الموعودة»، في حين يبقى العنف طارئا وطارئا وطارئا، لا يمكن أن يكون بديلا للاختلاف ولا حتى بديلا لجهنم، لأن هذه الأرض تلفظه من كل أعماقها، لم يتشرب منها ولم تتشرب منه، ولم تكن تؤنس به سمارها ولا رموزها ولا شعبها

إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"

العدد 397 - الثلثاء 07 أكتوبر 2003م الموافق 10 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً