حتى وقت قريب كان رجال «البنتاغون» لا يرون ان هناك ما يمكن تسميته بالعقل المدبر للمقاومة في العراق، ولا يوجد عنكبوت في الشبكة يجمع سويا بقايا حزب البعث المنحل، الجيش السابق أو مسئولي الأمن السابقين، ومن يسمونهم بالارهابيين أو المتطوعين الذين أتوا من خارج العراق. ولكن الآن هناك ادراك يتزايد بأن هجمات المقاومة تأخذ نسقا منظما وقدرة تخطيطية.
هذا على الاقل ما عبر عنه احد القادة الميدانيين في العراق. فالكولونيل جيمس هيكي الذي خاض وقواته مواجهات في شمال «مثلث الموت» يعرب عن قناعته بوجود تغيير في اساليب الهجمات التي تتعرض لها القوات ووجود تنسيق بينها.
وما قاله الكولونيل هيكي يعكس تحولا في الخطاب الاميركي بشأن المقاومة العراقية.
وكانت القصة الرسمية في البداية تنكر وجود مقاومة، ولفترة من الزمن حاول وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ان يزعم ان هذه الهجمات يقوم بها «المجرمون» الذين أطلق الرئيس المخلوع سراحهم من السجون قبل الحرب. ثم عاد رامسفيلد وغيره من مسئولي «البنتاغون» تحت وطأة الهجمات إلى القول انها من فعل مجرد «بقايا الموالين لصدام حسين».
ويعتبر كثير من المراقبين انه من الطبيعي ألا تعترف الإدارة الاميركية بوجود مقاومة لها قواعد شعبية، لأن من شأن الاعتراف بوجودها ينسف آخر مبررات هذه الإدارة المزعومة للحرب وهو تحرير الشعب العراقي.
لكن نكران وجود مقاومة أخذ يتغير، فقائد القيادة الوسطى في الجيش الجنرال جون ابي زيد تحدث في وقت مبكر ومنذ توليه منصبه الاخير عن حرب عصابات تواجهها قواته.
لكن ابي زيد نفسه عاد وتحدث عن جماعات ارهابية، بينما اعتبر الرئيس بوش ان ما تقوم به القوات الاميركية هو مواجهة متواصلة في الحرب على الارهاب. وعلى رغم وجود الاشارات المختلفة الصادرة من المسئول أو ذاك الجنرال عن جماعة «انصار الاسلام» أو «جماعة الزرقاوي» أو عن نشاط لبقايا «القاعدة» وانتقالها للعمل في العراق، الا ان نغمة «فلول النظام السابق» ظلت مهيمنة على الخطاب الاميركي في سياق تفسير الهجمات التي يتعرض لها الجنود.
غير ان واحدا من آخر تقارير الاستخبارات صنف المقاومة إلى 5 مجاميع جميعها أجنحة أو حلفاء لحزب البعث العراقي وتعمل في قطاعات مختلفة وتحت ألوية مختلفة وخاضعة بشكل ما إلى الموالين للرئيس المخلوع. ويحدد التقرير هذه المجاميع على النحو الآتي:
- جيش محمد: هذه المجموعة من العراقيين البعثيين تعمل تحت اغطية مفهوم الجهاد الذي يحث عليه الدين الاسلامي في مواجهة «العدو الصائل» الذي غزا البلاد. ويحدد التقرير وجود عناصر «جيش محمد» حول مطار بغداد الدولي وقاعدة الحبانية الجوية ومطارات H1وH2 وH3، وهذا الجيش مسلح بصواريخ سام 7 المضادة للطائرات.
- الألوية السوادء: وهي مجموعة تضم في غالبيتها عناصر «فدائي صدام» من مقاتلين عراقيين وعرب. ويعتبر التقرير هذه المجموعة هي المسئولة عن تدمير المنشآت النفطية وحقول النفط، ويشير التقرير اعتمادا على ما يسميهم خبراء متخصصين بالشئون الاسلامية أن «الراية السوادء» كانت شعار الثورة العباسية ضد الخلفاء الأمويين. ويعتبر التقرير ان الرسالة التي يوحيها اتخاذ هذا الشعار من جانب هذه المجموعة ان الموالين لصدام يستطيعون استخدام أية واجهة دينية لاحداث لبس في ان الهجمات التي ينفذونها انما دوافعها دينية.
- الناصريون العراقيون: وهم من أنصار الرئيس العراقي السابق الذين يتظاهرون بأنهم ملتزمون بأفكار الرئيس السابق جمال عبدالناصر ويتركزون في المنطقة بين سامراء وبعقوبة. وبحسب التقرير فان الرئيس العراقي المخلوع اراد عبر هذه الواجهة ان يحشد كل التيارات القومية المناوئة للوجود العسكري المحتل. مع ان هذه التيارات ازاحها الديكتاتور من الساحة السياسية ابان حكمه.
- الجناح العسكري لحزب العودة: الذي لا يعرف له وجود في الساحة العراقية سوى من خلال البيانات التي يوزعها في الشارع ولا يبين فيها هذا الحزب برنامجه السياسي أو توجهاته الفكرية ما عدا التحريض لشن الهجمات على قوات التحالف. والمعلومات المتوافرة تشير إلى ان جناحه العسكري يضم افضل المقاتلين من الجيش العراقي وخصوصا «القوات الخاصة» وأرفعهم تدريبا وأحسنهم تجهيزا ويتألفون من ضباط سابقين ويمتلكون كميات جيدة من المال ويمنحون 500 دولار نقدا وفورا لأي عراقي يرغب في الانضمام إليهم.
- تنظيم «القاعدة»، إذ يشير التقرير إلى ان عبدالرحمن ياسين وأبو مصعب الزرقاوي عملا على اقامة تحالف بين تنظيم «القاعدة» ونشطاء حزب البعث المنحل. وياسين هو المتهم الرئيسي بتفجير مركز التجارة العالمي العام 1993 ومازال على قائمة ابرز الارهابيين المطلوبين. وكان لسنوات قيد الاحتجاز المنزلي في بيت تابع للمخابرات العراقية في بغداد، وقبل ان يطلق سراحه عشية الحرب. في حين يعتبر الزرقاوي احد نشطاء «القاعدة» وهو يقيم صلات مع جماعة «انصار الاسلام» التي تتخذ من شمال العراق ساحة لعملها وهي قريبة جدا من تنظيم «القاعدة». ويتهم التقرير هذا التنظيم بالتحالف مع البعث انه المدبر الرئيسي للهجمات التي نفذت على السفارة الاردنية والأمم المتحدة والنجف.
والواضح ان تسريب هذا التقرير وغيره من التقارير والمعلومات المتعلقة بالمقاومة العراقية انما يراد بها حصر شبكة عنكبوت المقاومة العراقية بـ «فلول النظام السابق»، واعتبار ان العقل المدبر في شبكة العنكبوت هو الرئيس المخلوع، وتعمد التقرير تجاهل نحو 30 جماعة مقاومة لا تتبع الرئيس المخلوع وليست على صلة بنظامه المخلوع.
والقصد الواضح بحصر عمليات المقاومة بـ «فلول نظام صدام» يسهل على اميركا تصنيف الهجمات التي تتعرض لها قواتها في «خانة الارهاب»، والحال ان قصة ملاحقة الارهاب تبدو اكثر قابلية للترويج من مطاردة مقاومة عراقية مشروعة لاحتلال يعترف بكونه احتلالا، لا سيما على مستوى الداخل الاميركي إذ يعيش بوش هواجس الانتخابات وازدياد الرفض لبقاء القوات هناك.
والسؤال: هل الإدارة الأميركية مقتنعة بأن بقايا صدام هم الذين يديرون عمليات المقاومة. أم أن هذا الطرح ينطوي على أهداف أخرى؟
ما يمكن الجزم هو ان الإدارة الأميركية تهدف إلى إشاعة روح شعبية رافضة للمقاومة من وراء الترويج لوقوف «بقايا صدام» خلف العمليات، وتأكد ذلك ايضا من خلال القول إن هذه الهجمات تعطل عملية إعادة الخدمات إلى البلاد ايضا
العدد 397 - الثلثاء 07 أكتوبر 2003م الموافق 10 شعبان 1424هـ