العدد 3967 - الأربعاء 17 يوليو 2013م الموافق 08 رمضان 1434هـ

رحلةٌ بين الوطن والغربة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أنتَجَت إحدى الفضائيات، برنامجاً حاكَى قضية اجتماعية/ ثقافية مهمة. البرنامج، هو عبارة عن توصيف أحوال مجموعة من الطلاب، الدارسين في الولايات المتحدة، والقادمين من بلد واحد، والمنتمين إلى مذهبيْن إسلامييْن مختلفيْن (سُنَّة/ شيعة). الهدف كان الوقوف على نظرة الطرفيْن لبعضهما (كمتغايريْن مذهبياً) وهما في الغربة.

أظهَر البرنامج، الذي أنتجته روتانا خليجية، وبعد إجراء المقابلات مع هؤلاء الطلاب المبتَعَثين (ذكور/ إناث)، أنه وعندما يكونون في الغربة، فإن الفوارق المذهبية بينهما تذوب، والأحقاد تتلاشى، بسبب التعايش الإيجابي الذي هم فيه، والذي ساقتهم إليه الأقدار، حيث يتشاركون في الدراسة الجامعية، والسكن الجامعي، والواجبات والأنشطة الجامعية، وفي الاستقبالات والحفلات التي تقيمها الجامعة والملحقية الثقافية.

تحدثتْ فتاةٌ وتحدثَ شابٌ، كلٌّ على حِدَة، بأنهما ولأول مرة، يلتقيان، بأغيار لهما في المذهب، رغم أنهما من بَلَدٍ واحد. وقد تحدثا، كيف كانت الغربة بالنسبة لهما، فرصة جيدة للتعرف، والتقرُّب من بعضهم، حيث بُنِيَت معه/ معها علاقة وثيقة جداً، فوَجَدا نفسيهما في بَوْتَقَة، لم تعرف سوى الائتلاف الروحي، والتقارب الفكري والاندماج البيني.

إحدى الطالبات قالت، بأن الانطباع الذي رُسِمَ لها سابقاً، أن المنتمي إلى المذهب الآخر، هو إنسانٌ جُبِلَ على إيذاء مَنْ هم على غير مذهبه، حتى ولو يَدُسُّ لها في الطعام ما هو مُرِيب. وتضيف، أنه وعندما جاءت لأميركا، رَبَطَتها بإحدى الطالبات من غير مذهبها علاقة وثيقة نتيجة التعايش، حيث جَمَعَهما سَكَنٌ واحد، ورحلاتٌ مشتركة، ومائدةٌ واحدة، غابَت خلالها كل الفروقات المذهبية، بل ولم تستشعر شيئاً من ذلك مُطلقاً.

طالبٌ آخر قال، بأنه وعندما قَدِمَ إلى الولايات المتحدة لأول مرة، كان معه زميلٌ من مواطنيه، ممن ينتمي إلى مذهب آخر، لكنه تفاجأ كيف أن ذلك الطالب قد سَهَّل له كل شيء، ورَبَطته به علاقة وثيقة. طالبٌ آخر قال، بأن ما اتضحَ له، هو أن الإعلام كان «يِلعَب بنا». وذَهَبَ طالبان متغايران مذهبياً، أنه لم تعد لديهما مشكلة مع أي زواجٍ مختلط يُقدِمان عليه. وأصبح طالبان آخران متغايران مذهبياً ومناطقياً، يتحدثان باللهجات المحلية لبعضهما! انتهى البرنامج بخلاصات غاية في الأهمية، وتحتاج إلى دراسة ونظر.

هنا، يجب التوقف أمام هذه المشاهدات. وقد يتبادر إلينا ابتداءً السؤال التالي: إلى أيِّ حد، تتصارع فطرة الإنسان الأولى (أو تنهزم/ تنتصر حتى) أمام الظروف الاجتماعية والدينية المفروضة، التي تواجهها خلال تعاملاتها اللحظية؟ وما هي الأسباب التي تجعل من تلك الظروف لأن تنشأ وتتوحش وتستولي على حياتنا وتعاملاتنا؟ ثم هل هناك مجالٌ لأن تنتصر تلك الفطرة السليمة على مَنْ يريد تلويثها، والعَبَث بسَلِيقتها؟

إن الخلاصة التي توصَّل إليها البرنامج، أن هذه الشريحة الطلابية، لم تأتِ من أمصارٍ شتى، بل جاءت من بَلَدٍ واحد، إلاَّ أنها لم تستطع الاندماج مع بعضها في موطنها، لكنها كانت أقدر على ذلك عندما خَرَجَت منه! ما يعني، أن المشكلة ليست في الفرد بل في محيطه. وهي ليست في المكان، بل في مَنْ هم يلعبون على ذلك المكان وعلى مَنْ فيه.

وبالمناسبة، فإن ذلك المحيط ليس بالضرورة أن تكون الدولة فيه طرفاً، والدليل، أن أولئك الطلاب، قد ابتُعِثُوا من ميزانية تلك الدولة، وهم خليطٌ مذهبي. بل أكد الطرفان، أنهما أحسَّا بمساواة الدولة لهما في الغربة، نتيجة تعامل مُلحقية بلدهم الثقافية معهم بالسواء، إن كان في المخصصات، أو التعاملات الإدارية، أو في بقية الأمور الأخرى.

وبالعودة إلى المحيط الموبوء، المُنشِّيء للطائفية والتقسيم المذهبي، فإنه يمكن القول، أنه لا يتبلور بصورته النهائية، من خلال متغيِّر واحد فقط بل هو أسير عدد من التأثيرات، التي تتجاوز في كثير من الأحوال، حتى سلطة الدولة ذاتها، لتعبث بالسِّلم الاجتماعي. فالمحيط، به قوى دينية واجتماعية من خارج الدولة. وبه ميول واتجاهات. وهو واقع تحت تأثير الضرب اليومي للصورة النمطية والموجَّهة. وهو ما يجعله بهذه الكيفية.

هنا، يجب تحديد مسار وشكل الحياة، التي نريد منها أن تكون منتصرة للفطرة السليمة، التي لا تعرف «الغَيريَّة». فالمشتركات التي تمنحنا إياها تلك الفطرة كثيرة. وعندما تزداد المشتركات، وتنحسر الاختلافات، تصبح العلاقات أكثر اتساعاً ورحابة. كما أنها تزيد من قوة الأمان الاجتماعي، إلى الحد الذي يؤثر إيجاباً على أوضاع البلد كله، فضلاً عن أنها تقوي من الهوية، والانتماء الوطني، الذي لا يجد إلاَّ التماسك والاتحاد.

عندما ننجح في الرجوع إلى فطرتنا الإنسانية الأولى، وإلى مواطنتنا وهويتنا الجامعة، في مكان، ونفشل في تحقيق ذلك في مكان آخر، فهذا يعني، أن الداء في المحيط. هو ليس في الأرض، ولا في البشر، ولا في التاريخ، ولا في العلاقات النَّسَبيَّة ولا الروحية، بل فيما يحيط بكل ذلك من ظروف، ومن قوى (منابر دينية/ إعلام/ خطاب سياسي) تُحاول تشكيل واقعنا وحياتنا بطريقة خاطئة.

بل وفي أحيان كثيرة، تقوم هذه القوى، بفرض واقع حتى على الدولة ذاتها، فتجِد الأخيرة نفسها واقعة تحت تأثير تلك القوى الضاغطة. وعندما يبدأ ذلك في التشكُّل كأمر واقع، فإن صيغة جديدة من التوازنات تبدأ هي الأخرى في التشكُّل. وعندما تنشأ توازنات من هذا النوع ويشتد عودها، فهذا يعني أن البلد وخططه بدأ يسير على أثيرها وإيقاعها!

المشكلة، أن السماح لتلك القوى بالتشكُّل، أو على الأقل، إهمال حركتها السريعة، سيجعل منها شريكاً محورياً في نظام المصالح، وفي عظام رقبة الكيانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعندما تصبح كذلك، وكما قال الأستاذ محمد حسنين هيكل «فإنها إذا تمكنت الجذور في الأعماق، فمعنى هذا أن القطع أو الخلع يصبح عملياً تصدياً لواحدة من ظواهر الطبيعة ذاتها وهذا صعب». وهنا مكمن المشكلة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3967 - الأربعاء 17 يوليو 2013م الموافق 08 رمضان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 11:26 ص

      ما شاء الله لا ما شاء الناس.. لكن بعض الناس يقولون غير

      يقال المرأة في الغربه وطن. هنا الغريب يبحث عن سكن أو وطن أو من يسكن اليه في ما أو من سكن الفؤاد. لا يكون بلا غربه ولا تكون المرأة وطن لا في الغربة ولا في غير الغربه لكونها صاحبة الرجل. شبه أوشبيه للرجل في الخلق. يعني بالمحليه يناوسون بعض في ها الحياة. وما ذا عن بقية الناس أليسوا من من يشبه البشر. إذا بعد إما رفاق الدرب أو إخوان مو من إمك و لا أبوك لكن من آدم وحواء وآدم من تراب. وعليه فان الارض وطن الجميع منها نخرجعكم واليها نعيدكم . هذا ما قال الله ، بينما الناس عندهم أقوال أخرى. أليس كذلك؟

    • زائر 6 | 8:32 ص

      انها البىئة الحاضنة اوالاحري المجتمع الملوث..

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء

    • زائر 5 | 4:10 ص

      في الغربة نبتعد عن الفروقات والتمييز

      أكثر ما يؤجج القبوب سياسات التمييز والتفرقة والطائفية البغيضة
      أما في الغربة فالفروقات ليست حسب المذهب أو الديانة وإنما حسب ما يملكه النرء من علم أو فائدة تعود على الآخرين

    • زائر 3 | 2:34 ص

      في الغربه انا و ولد عمي على الغريب

      كلام صحيح في الغربه تذوب الفوارق المذهبيه وانا كما حصل لي , اني تعرفت على صديق على مذهب ثاني وقد ربطتنا صداقه قويه, وكنا مثل الاخوان لانفرق شيئا عن بعضنا ونحامي عن بعضنا. لاكن عندما عدنا اقترقنا ولم نعد نسئل عن بعضنا و الذي اثر اكثر هو الاحداث التي مررنا بها في البلد واتضح اكثر على حقيقته. ما اود قوله هو في الغربه فقط: انا و ولد عمي على الغريب

    • زائر 2 | 2:10 ص

      تغيير الذهنية

      الشيء الجميل هو كل الذين يخرجون من بلدانهم للدراسة في الغرب هو أنهم يأتون بذهنية جديدة وبأفق جديد والنماذج على ذلك لاح حصر لها

    • زائر 1 | 10:21 م

      الأقليات تتحد

      الأصل المذكور أعلاه يصح فى حالة الشباب المشتركين فى اللقاء. لا تمر فترة من رجوعهم الى بلدهم الا و تعود حليمة لعادتها القديمة. لأن العوامل الإقتصادية و الإجتماعية تتغير. كل طرف ينوى التعالى و لا يمكنه تحقيق ذلك الا بإزالة الطرف الثانى و التمسك بما يقويه و يضمن تقدمه. لذلك لا يمكن أعتبار هذا اللقاء حلا لمشكلة أزلية لازمت كل المجتمعات البشرية دون إستثناء.

اقرأ ايضاً