تضمن «إعلان هانجو» الذي اعتمده المؤتمر الثاني للمنتدى الثقافي العالمي في الصين، فكرة أن العالم يمر بتغيرات عميقة ويحتاج إلى إعادة ترتيب أوضاعه، حيث تزداد الهوة بين الشمال والجنوب، وأن الأزمة الايكولوجية العالمية تنبع من خصائص التصنيع التقليدي الذي أدى إلى تبديد الموارد وزيادة الاستهلاك ومن ثم الاندفاع للبحث عن الموارد وتبديد عناصر الطبيعة، وأنه حان الوقت لبناء حضارة ايكولوجية ترث الحضارة الصناعية التقليدية وتقوم بتطوير الاقتصاد الأخضر والطاقة الخضراء، وتؤدي للاندماج العالمي.
وبناء مثل هذه الحضارة ليس سهلاً، بل يحتاج الكثير من الجهد الإنساني لبناء عناصر التوازن بين الإنسان والطبيعة، ومن ثم فهي مشروع طويل الأمد يسعى لتحقيق الاستدامة الشاملة. وأكد الإعلان أن البشر هم الذين يصنعون التاريخ، ولابد من الاعتماد عليهم لبناء الحضارة الايكولوجية.
كان المنظمون الصينيون حريصين على التوازن في تعاملاتهم واهتماماتهم بكل مناطق العالم في المؤتمر الأول عام 2011، حيث كان أهم ضيوفهم من باكستان واندونيسيا، وفي المؤتمر الثاني من أفريقيا (موزمبيق) وبقية قارات العالم، ومن مختلف التخصصات، ومن ثم فان المنتدى يتناغم مع السياسة الرسمية للصين واهتماماتها كل عام.
وكانت كلمة رئيس جمهورية موزمبيق معبّرةً عن مصالح بلده كدولة، وعن دول السادك «تجمع الجنوب الإفريقي» والاتحاد الإفريقي ككل، وحرص على التركيز على ذلك في كلمته أكثر من مرة. أما كلمات كبار الشخصيات الأوروبية والأميركية والآسيوية وخصوصاً من المفكرين والأكاديميين، فكانت معبّرة عن الفكر والفلسفة والقيم العالمية. في حين حرص رئيس وزراء اليونان على إبراز التشابه الفكري بين الفلسفتين الإغريقية والصينية. أما الفنانة التشكيلية كوثر الشريف من مصر، فقد ركّزت على العلاقة بين الفن التشكيلي والحضارة الايكولوجية من حيث قيم الجمال والنظافة والتوازن، في حين عرض رئيس وزراء هولندا السابق لعلاقته ولقاءاته مع الزعيم الصيني دنج سياوبنغ في الانفتاح على العالم والسير على قدمين في التنمية الاقتصادية وهما الثقافة والتوافق، أو التناغم والاستدامة. وهو ما عبّرت عنه وثيقة وأجندة الألفية الدولية بعد ذلك بعدة سنوات، بخلاف ما كان سائداً في القرن الماضي من التنافس والصراع واقتصاد السوق التنافسي المنغلق على الذات. في حين اهتم العلماء والمفكرون الصينيون بالجوانب العلمية في معالجة قضية الإيكولوجي بتوسيع نطاق الغابات وحمايتها ودخول الحضارة العالمية إلى مرحلة حضارة الإنسان وتناغمه مع الآخرين، وليس الصراع أو التنافس، أو حضارة الاستهلاك أو الإنتاج فحسب دون ضوابط، والتنافس الذي يؤدي للصراع والحروب.
وذهب البعض إلى أنه ما لم يتوقف العالم المعاصر عن السباق والتنافس والصراع، فإنه مهدّدٌ بكارثةٍ كبرى في الموارد البيئية. وركّز على الارتباط الوثيق بين الثقافة والتنمية بقوله «لا ثقافة بلا تنمية، ولا تنمية بلا ثقافة». وأشار رئيس وزراء اليونان إلى أن أرسطو وفيثاغورث وكونفوشيوس وغيرهم أبرزوا مفهوماً للتنمية الشاملة.
ومع بروز الطابع المثالي في المداخلات والتركيز على القيم والفضائل، لم يغفل المشاركون عن إبراز التحديات والمخاطر والأزمات الراهنة واحتمالاتها المستقبلية التي تهدّد بفناء البشرية، إذا سارت في الطريق الحالي. فكونفوشيوس أكّد بوجه خاص أهمية احترام الطبيعة وقوتها وعناصرها وضرورة التلاؤم معها في إطار من التوازن والتعايش. وقد أبرز أرفين لازلو Laszlo مؤسس ورئيس نادي بودابست في المجر، أهمية نشر الوعي جنباً إلى جنب مع إصدار التشريعات الرادعة والعمل الطوعي للحفاظ على البيئة والايكولوجي.
وحرص بعض الخبراء على إبراز دور بلادهم أو مفكريهم في تحقيق سبق علمي أو فكري في حماية مفهوم الايكولوجي، وأشار كاتب السطور في ورقته البحثية عن مفهوم الحضارة الايكولوجية ومتطلباتها، إلى دور العالم المصري الراحل المهندس المعماري حسن فتحي في تطوير مفهوم البناء العمراني بما يتلاءم مع الطبيعة منذ منتصف القرن العشرين، وهو ما عبّر عن بعد نظره، وعمق رؤيته، في توفير الطاقة قبل أن تظهر هذه الأزمة الايكولوجية المرتبطة بظاهرة الدفيئة على السطح. وأبرز الكاتب ما أسماه الأعمدة الخمسة للحضارة الايكولوجية الجديدة وهي: المشاركة، الاعتماد المتبادل، التعاون، البعد الخطي الصاعد (التقدم)، والرؤية المستقبلية بعيدة المدى. وأشار إلى اثنين من أهم المفكرين في عالمنا المعاصر، وهما كارل ماركس في قوله «الإنسان يصنع التاريخ»، والمؤرخ الفرنسي فرنان برودول في مقولته «التاريخ يصنع الإنسان»، مبرزاً أن كلتا المقولتين متكاملتان وليستا متناقضتين.
إن عالم اليوم في الدول الصاعدة مثل الصين، يركز على البناء والتنمية وتطوير الفكر والعمل والرؤية المستقبلية، وتجاهل القشور أو التركيز على الماضي، والسعي لاسترجاعه أو التباكي عليه، رغم ما به من كوارث ونكبات وصراعات. ولا شك أن أية دولة أو حضارة أو مجموعة من البشر تعيش في الماضي، فلن يتحقق لها التقدم، فالزمن لا يمكن إعادته أو استرجاعه، كما هو معروف في علم إدارة الوقت Time Management، ومن العبث أن يعيش الإنسان في الماضي، ولكن هذا لا يعني نسيانه وتجاهله، وإنّما دراسته لأخذ العبرة منه وليس الحياة فيه، ما يؤدي إلى الفكر القبلي الهدام، والصراع اللانهائي بين الأمم والشعوب والطوائف والأعراق والأديان. ولعل من أحسن ما كان في هذا المؤتمر المفهوم الذي ركّز عليه الصينيون وهو مفهوم التعايش والتناغم بين الكونفوشية والبوذية، وبين الماركسية والثقافة الصينية، وبين اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن الأديان رسالة محبة وليست دعوة للصراع والحروب والنزاعات.
تلك كانت لمحات من فكر المشاركين في المنتدى الثقافي العالمي (تايخو- الصين)، وهي تعبر عن فكر الصين، الدولة الصاعدة في عالم القرن الحادي والعشرين. وهو فكر يتسم بالطابع البراجماتي العملي البعيد عن الجمود الإيديولوجي، ويهتم بمتطلبات الحياة الإنسانية أكثر من اهتمامه بما وراء المرئيات وعالم الغيبيات التي لا يدركها الإنسان ولا يستطيع التحكم فيها، وهذا ما عبر عنه كونفوشيوس في القرن الخامس قبل الميلاد عندما سئل عن العالم الآخر فقال «إننا لم ننته من بناء العالم الحاضر في هذه الدنيا، حتى نفكّر في العالم الآخر». وهذا مفهوم واقعي وعملي دون أن يعني الافتئات على قيم الأديان وتعايشها الحقيقي في إطار من الاحترام المتبادل بعيداً عن مفاهيم الصراع أو الحياة بعيداً عن الواقع. وكما في المثل: «عندما نصل إلى شاطئ الهند سوف نفكر في كيفية عبوره»، أي أهمية وضع جدول أولويات للحياة وللعمل. وهو مفهومٌ يختلف جزئياً عن الإيمان الديني الكامل، الذي يرى أن الحياة هي طريق إلى الآخرة التي هي الدار الأبدية للإنسان، ولكن النبي محمد (ص) وضع مبدأ التوازن كأساس للعلاقة بين الاثنين، في قوله: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً». (انتهى).
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3951 - الإثنين 01 يوليو 2013م الموافق 22 شعبان 1434هـ