يدفع تزايد ضحايا الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على العراق إلى ارتفاع حرارة السؤال في أوساط الأميركيين عن الأسباب التي وضعتها ادارة الرئيس الأميركي لشنها والتسبب في معاناتهم ما يجعل الكثيرين يدركون أنهم كانوا على حق في معارضتهم لتلك الحرب. ويرى الكاتب روبرت هيجز «أن مهندسي الحرب على العراق، أصحاب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوفيتز، ينامون كل ليلة بين ملاءات نظيفة يعتبرون أن الثمن المرعب يستحق التحمل في الوقت الذي لا يتحملون فيه شخصيا شيئا من ذلك. أما مناهضو الحرب فغالبا ما يبدون في حال من الذهول والحيرة».
ويتساءل هيجز «كيف يستطيع دعاة الحرب الذين يطلق عليهم في واشنطن «حزب الحرب» أن يدفعوا الولايات المتحدة إلى كارثة تلو أخرى وهم أقلية وفشلت في ثني مواطنيهم من زحف آخر نحو المأساة».
والجواب على بعض العناصر الأساسية: الحكومة الأوتوقراطية، واستبعاد الثقافة الجماهيرية والجهل الجماهيري والثقة التي في غير محلها ووسائل الإعلام الجماهيري التعاوني والاستغلال السياسي لفوائد شخصية ومؤسساتية.
والحكومة الأوتوقراطية في الولايات المتحدة كما يقول هيجز تشير إلى حقيقة كيفية صنع السياسة الخارجية في واشنطن. وعلى رغم زخارف الإجراءات الديمقراطية للنظام السياسي الأميركي والتحقق والتوازن والانتخابات وما إلى ذلك، فإن صنع السياسة الخارجية يشمل فقط حفنة من الناس بصورة حاسمة. فعندما يقرر الرئيس الأميركي وحاشيته من كبار المستشارين الذهاب إلى الحرب فإنهم يذهبون إليها ببساطة، وأجهزة المخابرات والسلك الدبلوماسي والقوات المسلحة تفعل ما يقال لها. وأعضاء الكونغرس الأميركي يرتجفون ويتحدثون من دون إخلاص وبعبارات لا تعبر بوضوح عن وجهات نظر مغايرة لكي تضمن مشاركتهم في أية فوائد أو إنكار أي لوم مهما كانت نتائج الحرب. وما من أحد لديه القدرة الفعالة لعرقلة الرئيس، وقلة من المسئولين يهتمون بعمل ذلك في أي حادث، حتى لو كانوا يعارضونه. ونادرا ما يعرض أي شخص القدر الأدنى من اللباقة بالاستقالة من عضوية لجنة عسكرية أو وظيفته في الجهاز البيروقراطي. وباختصار فإن الرئيس الأميركي الذي باستطاعته أن يكون «قيصرا» يقبض على سلطة الحرب والسلام بغض النظر عما هو مناقض لذلك في الدستور أو القوانين.
ويؤكد خبراء أميركيون في شئون السياسة المحلية أن الانتخابات لا تستطيع ببساطة السيطرة على أوتوقراطية الرؤساء الأميركيين في تقرير ما إذا كانوا سيذهبون إلى الحرب. ولكن الرؤساء يقررون ذلك في سياق ثقافة جماهيرية مبرمجة ومشجعة. ومع الاعتراف بالألم الذي أصاب مناهضي الحرب فإن الكثير من الأميركيين يبتهجون في «توجيه الضربات على القفا»، ولا يكترثون كثيرا أي قفا هم يضربون ولماذا؟
ويلعب جماعة «حزب الحرب» على وتر «الوطنية» لدفع الأميركيين العاديين إلى تبني سياسة خارجية عدوانية بما يجعل التوق لإراقة الدماء والتدمير يتجاوز من يطلق عليهم «ذوي الرقبة الحمراء» وهم فلاحو ومواطنو الجنوب. فالتعبيرات المتسمة بالثقافة العالية وإن كانت معقدة لهذه النزعة تظهر بشكل منتظم في افتتاحيات صحف أميركية رئيسية «مثل وول ستريت جورنال» و«واشنطن بوست» وهي بوق لحزب «الليكود» الاميركي الذي يتبنى شعار «كل الحروب في كل الأوقات» فيما مراكز البحث والدراسات اليمينية وأبرزها «أميركان انتربرايز إنستيتيوت» تقدم مثقفين مفوهين في زمر لدق الطبول من أجل إنزال عقوبة الموت والدمار على نطاق واسع.
والدارس للتاريخ الأميركي لن يفاجأ بمثل هذه النزعة الثقافية العدوانية التي تنحى إلى العنف، لأن الأميركيين كانوا طبعا وعلى الدوام «شعب عنف في أرض عنف» فعندما قرر الأوروبيون البيض استيطان أميركا الشمالية تعاهدوا على ذبح سكانها الأصليين (الهنود الحمر) وسرقة أرضهم وإذلال «العبيد الأفارقة» بالسوط كعمال سخرة لهم لنحو قرنين ونصف القرن، أوقعوا فيها ضحايا آخرين في متناول اليد إذ ضربوهم وقتلوهم واحدا تلو الآخر لأتفه الذرائع أو لمجرد الارتياح لعمل ذلك بالبنادق والسكاكين وحتى بالأيدي المجردة. ومثل هؤلاء الناس لا يمكن اعتبارهم «شعبا محبا للسلام» فهم يقادون إلى الحرب بسهولة.
ويرى هيجز أن تعقيدات السياسة الخارجية هي غريبة عن الجمهور العادي «مثل الجانب المظلم من القمر، ولكن جهلهم أعمق بكثير من ذلك، فهم لا يستطيعون توضيح أبسط العناصر في النظام السياسي». الأميركي... إنهم لا يعرفون ما الذي يقوله الدستور الأميركي أو يعنيه، ولا يستطيعون تحديد مندوبيهم السياسيين أو القضايا التي يقف وراءها هؤلاء الأشخاص بوضوح، ونادرا ما يعرفون أي شيء عن التاريخ، وإن ما يعتقدون أنهم يعرفونه هو في العادة غير صحيح. وأناس بهذا القدر الكثيف من الجهل لدرجة أنه ليس لديهم أية فكرة عن كيفية انخداع أسلافهم والتضحية بهم على مذبح «إله الحرب» في آخر مرة، يكون من السهل خداعهم والتضحية بهم بسهولة في المرة المقبلة.
ان تشكيل غطاء من الثلج على قمة هذا الجبل من الجهل هي رغبة واسعة الانتشار من أجل الثقة بالسلطات الحاكمة وخصوصا الرئيس الأميركي، فإذا أبلغ الرئيس الشعب الأميركي بأن العراق يشكل تهديدا خطيرا للولايات المتحدة فالكثير منهم يصدقونه. ويستغل الرؤساء ومساعدوهم هذه الثقة الموضوعة في غير محلها لكسب موافقة شعبية على سياسات خارجية عدوانية وهم يدركون أنه حتى لو كان كل شخص مثقف نوعا ما في الولايات المتحدة أو متشكك يعارض هذه السياسة، فإنها ستحظى بدعم كبير في استطلاعات الرأي.
وطالما أن الحرب تحدث في «مكان بعيد» وفي «مكان ما» يكون على الأرجح مكانا قلة من الأميركيين قاموا بزيارته وأن معظمهم لا يستطيعون حتى تحديده على الخريطة، وأنه لا توجد أكياس كثيرة جدا للموتى تسلم وبداخلها أبناء وأزواج، فعندها تميل الجماهير إلى أن تجد سعادة كافية في جهلها وثقتها الساذجة بحكامها. وإن التلويح بالأعلام الأميركية وغيرها من العروض الرمزية تجلب لهم هوية تضامنية رخيصة في حالة الولايات المتحدة.
وتلعب وسائل الإعلام والأخبار الأميركية دورا رئيسيا في مساعدة الادارة على تسويق صناعتها للحرب. فوسائل الإعلام الضخمة التي تتمتع بـ «مواقع راسخة في النظام الراسخ» مترددة في تحدي العدوانية الخارجية للادارة. وعلى المستوى العملي فإن المراسلين لا يريدون أن يحرموا من مزايا الوصول إلى المصادر الداخلية للمعلومات. وعلى المستوى الأعلى، فإن أصحاب مؤسسات الإعلام والمخرجين لا يرغبون في أن يظهروا بأنهم غير وطنيين كما يمكن للادارة أن تصفهم. وطبعا فإن وسائل الإعلام الأميركية الساعية إلى الربح تميل في أي حدث إلى «تفصيل» الإنتاج حسب نوع القراء والمستمعين والمشاهدين الذين ينقلون لهم الأخبار، وهكذا فإن من بين شبكات التغذية الإعلامية في المستويات الدنيا فإن «فوكس نيوز» والتي تتمسح بمسوح ما تسميه «العقلانية الهادئة» تهدف إلى تسلية الأجلاف المتعطشين للدماء. وفي المستويات العليا توجد صحيفة «نيويورك تايمز» التي تعرف ما هو أفضل من الإساءة للمؤيدين الأقوياء للكيان الصهيوني.
وعلى رغم وجود مصادر كثيرة للأخبار والتحليلات في هذه الأيام وخصوصا على مواقع «الانترنت»، وبعضها تعارض بقوة العداء الذي ليس له معنى، فإنه يتعين على الناس أن يوظفوا وقتا أكثر وطاقة أكثر من أجل البحث عن مثل هذه البدائل، وقلة من الناس نسبيا الذين يفعلون ذلك.
إن ما يجب الاعتراف به هو أن الحرب بالنسبة إلى كثير من الأشخاص والمؤسسات هي «صفقة عالمية» وتبعا لهذا التعريف فإن كل مغامرة أجنبية تقدم فرصة رائعة للكثيرين من أجل كسب فائدة شخصية وسياسية واقتصادية. وإن ما يسمى الحرب ضد الإرهاب كانت «منحة ربانية» لكل شخص يدعي أنه يعمل في تجارة الأمن بدءا من المتخصصين في إدارة المعلومات ومؤسسات تدريب الأمن ومصانع أجهزة المراقبة ناهيك عن كل أولئك المستأجرين الجدد في وزارة الأمن (الداخلية) ووزارة العدل التي تتولى الإشراف على أجهزة الأمن والشرطة والمخابرات الداخلية (إف بي آي).
ويرى الكثير من الخبراء أن ادارة بوش كانت بمجملها تتخبط في سياساتها الداخلية والخارجية حتى جاءت كارثة 11 سبتمبر/ايلول التي أعطت بوش نفسه «ذريعة» من أجل «العظمة» إذ رفعته إلى وضع ونستون تشيرشل كما أنها رفعت مسئولين ووزراء إلى مستوى العباقرة وهم ليسوا كذلك، مثل وزير الأمن توم ريدج، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي دبجت الصحافة الأميركية الرئيسية مقالات تتغنى بعبقريته والآن تدعو الصحف ذاتها إلى استقالته. وبالنسبة إلى كل هؤلاء المرتبطين بجماعة الرئيس بوش وأصدقائهم في «المجمع الصناعي العسكري» وغيره من صناعات الحرب والأمن فإن هذه الأيام التي تشن فيها الولايات المتحدة حروبا في العراق وأفغانستان وتهدد بضرب ومحاصرة آخرين، هي أسعد أيامهم.
ولتغطية خطاياهم وإخفاقاتهم ومزاعمهم يتبنى زعماء «حزب الحرب» المفهوم الميكافيلي الذي يقول «إن من الضرورة أن تكون مدعيا ومرائيا، ولا رجال بسطاء جدا وهم خاضعون جدا للضرورات الراهنة إلى درجة أن الشخص الذي يسعى إلى الخداع سيجد دوما شخصا ما سيسمح لنفسه أن يخدع». لذلك تقوم الادارة الأميركية بالتظاهر بخفض الضرائب وزيادة الإنفاق الفدرالي على نطاق واسع وهو أسلوب يمكنها من شراء المعارضين الديمقراطيين المحتملين في الكونغرس. وزعماء «حزب الحرب» في أميركا يقومون بذلك وهم يرفعون شعار «ليحدث من بعدي الطوفان» الذي ستكون أمواجه العالية بعد ذلك مشكلة شخص آخر. وقد يفيق البعض ليلقوا باللوم على المذنبين الحقيقيين، ولكن «بعد خراب البصرة».
العدد 394 - السبت 04 أكتوبر 2003م الموافق 08 شعبان 1424هـ