العدد 3934 - الجمعة 14 يونيو 2013م الموافق 05 شعبان 1434هـ

«تشرنوبل النووية» الحدث المأساوي... ذكريات شاهد عيان (7)

شبر إبراهيم الوداعي

باحث بحريني

الحقائق بشأن الأضرار التي تركتها الكارثة على الواقع الاجتماعي تشير إلى تكويناتها المتداخلة في تأثيراتها السلبية، ولم يكن للكارثة آثارها النفسية فحسب بل تركت آثاراً واضحة على منظومة المكوّن الاجتماعي، حيث خلفت الاشعاعات أضراراً عميقة على صحة المشاركين في عمليات مكافحة انفجار المفاعل، وأحدثت لهم عاهات مزمنة يصعب علاجها، ما دفع بالكثير من هؤلاء إلى ترك عائلاتهم والانتحار، ما خلق شرخاً كبيراً لدى الكثير من العائلات. وأفرزت الكارثة شريحةً اجتماعيةً مميّزةً في المجتمع لها صفاتها النفسية الخاصة، أطلق عليها «التشرنوبليون» حظيت باهتمام الباحثين الاجتماعيين.

وبفعل اختلاطي بالمجتمع الأوكراني في الأرياف والمدن المختلفة، صادفت خلال زيارتي للعديد منها، الكثير من المتضررين وأسرهم، كما زرت المناطق التي لجأ إليها الكثير من الأسر هرباً من الاشعاعات، وتحدّثت معهم عن قرب. وبعد عامٍ من الكارثة قمت مع صديقي ايجور نيتوفكن بزيارة مدينة «كوراخفا»، التابعة لمحافظة «دانيسك» في شرق أوكرانيا، والتقيت هناك المهجرين من تشرنوبل، وكانوا في حالةٍ نفسيةٍ صعبة، ووجدت الأطفال والنساء والجدات والحزن يبدو على وجوههم المتعبة نتيجة فقدان الأمل في المستقبل، وترك ذلك بصماته الواضحة على تصرفاتهم وسلوكياتهم، حيث كانت معاملاتهم مع سكان تلك المنطقة تتميّز بالقسوة والعنف، وسبّب ذلك الكثير من الإشكالات. وعلى الرغم من ذلك وجدت تعاطفاً معهم من قبل السكان في مأساتهم، وكانوا يسعون بكل السبل من أجل التخفيف من معاناتهم.

وعندما كنت متوجهاً من مدينة «كامنتس بدولسكي» التابعة لمحافظة «خملنيسك» غرب أوكرانيا إلى مدينة كييف، التقيت في القطار مع إحدى الأسر المتضررة، وكان ذلك في فبراير/شباط 1996. كان وقتها الجو قارساً والثلوج متجمدة في الشوارع، ولاحظت امرأةً تنظر من نافذة القطار إلى الثلج المتجمد في الشارع والدموع تنهمر من عينيها بغزارة، وشعرت أنها تعيش مأساةً، فأخذت في ملاطفتها ومحاولة التخفيف عنها، وفي الأثناء قالت لي: اعذرني إن كنت سبّبت لك إزعاجاً، فلقد تذكّرت زوجي الذي انتحر متجمداً نتيجة يأسه وفقدانه الأمل في الحياة.

وأخذت المرأة تقصّ عليّ ما حدث لزوجها حيث قالت: كان إنساناً محترماً ومثالياً ومحباً لأسرته، يكره تعاطي الكحول، وعندما حدثت مأساة تشرنوبل جرى استدعاؤه ضمن فريق مكافحة الكارثة، وبعد عودته أصيب بعاهة مرضية فقد بسببها فحولته، فأدمن على تعاطي الكحول، وكان يريد أن يفارق الحياة حتى وُجد متجمداً في صقيع شتاء فبراير القارس. والآن كلما أشاهد الثلوج في هذا الشهر تعيد لي ذكريات ذلك اليوم المشؤوم، وذكريات مأساة تشرنوبل.

وتركت الكارثة آثاراً مأسوية على المستقبل الأسري للشباب، حيث تسببت بفقدان الكثير من الشباب والشابات القدرة على الإنجاب، وذلك نتيجة العواقب الخطيرة التي يمكن أن يشكله ذلك على سلامة السلالة الوراثية، وصحة النسل، وبما يمكن أن يؤدي إليه من حدوث مخاطر الإعاقة الجسمية والتشويه الخلقي للمواليد.

وبحكم علاقتنا المتينة بالمجتمع الأوكراني، فإننا على اطلاع بأن هناك الكثير من الأسر وبالأخص منهم النازحين من تشرنوبل والبلدات المحيطة بها الذين امتنعوا عن الإنجاب وفق تعليمات الأطباء، نظراً لاحتمال إنجاب أبناء مشوّهين أو معاقين. وترك ذلك آثاره العميقة على الكثير من الأسر والمجتمع بشكل عام، وخصوصاً فئة الشباب التي تمثل القطاع الرئيس في المجتمع، بيد أن ذلك لم يمنع العديد من الشباب من الانجاب ومنهم جارتنا «لينا» في مدينة «كامنتس بدولسكي»، وهي إحدى ضحايا الكارثة، حيث نصحها الأطباء بعدم الإنجاب لاحتمال تشوّه ما ستنجبه من أطفال، غير أنها رزقت في نهاية يونيو/ حزيران 2004 بمولودة اسمتها «هبة الله»، إلا أن الطفلة بحكم معرفتي القريبة بحياتها، وتحسبني كما والدها، فقد عرفت من خلال حواري الهاتفي مع والدتها، بدأت تظهر عليها علامات الضعف الجسماني وعدم مقاومتها للحالات المرضية البسيطة.

تلك عينة معروفة لدينا، بيد أن هناك الكثير من الحالات والحقائق غير المرصودة التي قد تصل إلى مستوى من التشوه الخلقي والإعاقة الدائمة، حيث لم تتوفر بيانية دقيقة بشأن ذلك. وعلى الرغم من وجود بعض الدراسات إلا أنها ليست بالمستوى المطلوب في تشخيص تداعيات الكارثة وتوفير بيانات على قدرٍ من الأهمية العلمية يمكن الاستفادة منها في الدراسات الاجتماعية والإنسانية. ووفق متابعاتنا لواقع تداعيات الكارثة لم نجد بيانات تبين واقع تأثيرات الكارثة، ويبدو أنه لم يتم العمل على إعداد دراسة ميدانية لإجراء قراءة دقيقة للتمكن من تبيان التأثيرات الفعلية لإشعاعات تشرنوبل على واقع الإنجاب وحالة المواليد.

إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"

العدد 3934 - الجمعة 14 يونيو 2013م الموافق 05 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً