تشكل مظاهر الارتباك والعجز عن التفكير فيما ينبغي اتخاذه للهروب من جحيم الاشعاعات الصفة التي ميّزت الحالة الاجتماعية في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ المجتمع في مدينة كييف، ويمثل ذلك أحد الإفرازات المأسوية للكارثة، كما أن ازدياد الهلع من الاشعاع على نطاق واسع والذي شمل عشرات الألوف من الناس الذين مستهم الكارثة على هذا النحو أو ذاك، والخوف الدائم من العواقب البعيدة للكارثة وعلى المستقبل الشخصي ومستقبل الأبناء، تلك هي النتيجة المشئومة، ولربما كانت النتيجة الأكثر شؤماً التي أسفرت عنها كارثة تشرنوبل. لأنه ليس ثمة شيء آخر يؤدي إلى الفتّ في عضد الإنسان كالتشاؤم وفقدان الثقة بالمستقبل.
واليوم بعد مضي فترة زمنية ليست بالقصيرة على الكارثة، لا تزال العاهات النفسية مرافقةً للذين رحلوا من بلدة تشرنوبل والبلدات المحيطة بها وتلك الداخلة ضمن حزام الخطر، حيث التشاؤم يدب في نفوسهم، لمست ذلك عندما كنت مع صديقي منير دبره من سورية في زيارة إلى مدينة «افانكوف» لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء في شهر أغسطس/آب 1993، تلك المدينة التي تبعد عن تشرنوبل حوالي 30 كيلومتراً، والتي تعتبر من مناطق الحزام الذي ينص عليها «قانون تشرنوبل بشأن التعويض عن أضرار الكارثة»، التي لحق بالمواطنين. وهي من المدن التي كان من المفترض أن يُرحّل سكانها إلى مناطق أخرى، ولكنهم تمسّكوا ببيوتهم ومزروعاتهم وحقولهم وفضلوا البقاء على التشرد، على الرغم مما يشكّل ذلك من خطر حقيقي على مستقبلهم الصحي والوراثي. وعندما سألت أحدهم كيف فضلتم البقاء هنا على الرغم من الخطر الحقيقي الذي يشكله الإشعاع على صحتكم؟ أجابني بحزن: «لا نريد أن نكون لاجئين، فالموت أفضل من التشرد»!
وعلى الرغم من ذلك فان الصحة العامة للمواطنين والتي فهمتها من خلال حواراتي في مدينة «افانكوف» تتمحور في الخوف على مستقبل أبنائهم، وذلك السبب المباشر الذي دفعهم إلى ترحيل الكثير منهم إلى مدينة «كييف» للدراسة والعمل.
والكارثة لم تترك آثارها النفسية على المواطن العادي فحسب وإنما تركت بصماتها على نفسية الأدباء والكتّاب والباحثين والأكاديميين، وهذا ما بينته البحوث التي صدرت بعد الكارثة. ويستشف المرء من خلالها مدى التأثير النفسي للكارثة على الباحثين، ومن خلال علاقتي الوطيدة بهيئة التدريس في قسم القانون الاكيولوجي بكلية الحقوق في جامعة كييف، وما رافق تلك العلاقة من حوارات دائمة مع الهيئة التدريسية حول الكارثة وموقعها في معادلة الكوارث التي تعرضت إليها الشعوب الأخرى نتيجة الحروب التي عانت من ويلاتها البشرية، أدركت مدى عمق الجرح النفسي الذي أحدثته الكارثة. واتضح لي ذلك أكثر عندما كنت أستعد للدفاع ما قبل النهائي عن البحث المقدّم لنيل درجة «الدكتوراه في القانون البيئي» وكان يعالج موضوع «المشاكل القانونية لحماية مياه الخليج العربي»، فقد اعترض عددٌ من الدكاترة المختصين في الشأن الاكيولوجي على ما قدّمته من مقارنة لكارثة «تشرنوبل» «والكارثة البيئية الناجمة عن العمليات العسكرية في حرب الخليج»، ودار نقاشٌ حادٌ بيّن مدى التأثير النفسي للكارثة على زملائي في القسم.
ولواقع الحدث أثره المباشر أيضاً على نفسية الطلبة الأجانب، وتباينت تلك التأثيرات من شخص إلى آخر حيث تجد اللامبالي بما حدث، وتجد الحزين الذي دبّ في نفسه الخوف، وذلك الذي يعيش حالة من الفزع ويبحث عن طريق للهرب. كما كنا نجد طوابير من الطلبة في محطات الاتصال الخارجي لتطمين الأهالي على صحتهم، ومنهم الذي جلس حتى الفجر، وكنت واحداً من ذلك الجمع الذي ينتظر الحصول على فرصةٍ للاتصال حيث كانت الاتصالات شبه معدومة.
ونتيجة لما تركته الكارثة من آثار نفسية على الطلبة الأجانب، فإن الكثير منهم غادروا إلى المدن البعيدة عن منطقة الكارثة، ومنها البحر الأسود في منطقة القرم، وفتحت لهم المصحات وأماكن الراحة في العديد من المدن.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 3926 - الخميس 06 يونيو 2013م الموافق 27 رجب 1434هـ