العدد 3919 - الخميس 30 مايو 2013م الموافق 20 رجب 1434هـ

تشرنوبل النووية الحدث المأساوي... ذكريات شاهد عيان (5)

شبر إبراهيم الوداعي

باحث بحريني

الأضرار الاجتماعية الناجمة عن كارثة «تشرنوبل» لا تنحصر فيما تعرض له الأهالي من مآسي التشريد وفقدان الأرض والمأوى، كما لا يمكن حصرها أيضاً في الخسائر الاقتصادية، بل هي أكبر من ذلك، فهي تتمثّل في المحنة والمأساة الإنسانية التي سببها موت وتعرض الكثيرين للإعاقة الدائمة، من سكان بلدة تشرنوبل والبلدات المجاورة والأشخاص الذين شاركوا في التصدي للكارثة دفاعاً عن وطنهم، وتركوا فراغاً أسرياً مميتاً.

العم «نيقولاي» والخالة «نينا» اللذين رحلا إلى العالم الآخر، من ضحايا تشرنوبل وجرى ترحيلهما مع ابنتهما «لينا» إلى مدينة كامنتس بدولسكي غرب أوكرانيا، التي تبعد عن تشرنوبل حوالي 500 كيلومتراً، باب شقتهما ملاصق لباب شقتنا، وكانا جارين لطيفين دمثي الأخلاق ويقابلاني بابتسامة دائمة، وكانت تربطني بهما علاقات حميمية، وكنا نتبادل الأحاديث اليومية عن مأساتهم وأبعادها الاجتماعية والوطنية والكونية.

العم نقولاي طويل القامة قوي البنية ويمتاز بقوته الجسمانية وكان شديد العزيمة ولا ينحني أمام الصعاب، كنت أجلس معه كلما أزور المدينة على كرسي خشبي تحت ظل شجرة كرز وفيرة الثمر عند مدخل العمارة التي نعيش فيها، وعملنا معاً على تثبيت ذلك الكرسي بعمود من الحديد لصونه من عبث الفوضويين، بيد أن الكرسي وصاحبه لم يعد لهما وجود، وظل العمود ثابتاً يحاكي ذلك التاريخ الذي يذكر الجيران بتلك العلاقة الحميمية التي كانت تربطني بالعم نيقولاي.

وللعلاقة بالعم نيقولاي حكاية لا تنسى، وعندما ألتقيه كانت بلدة تشرنوبل وأحداثها لا تفارق حديثه، وكان يحدثني عن تلك اللحظة المؤلمة في حياته وهو يصدر زفرة ملؤها الأسى والألم، وعلامات الحزن تبدو على وجهه الكئيب، ويقول: «خسرنا كل شيء». ويواصل حديثه: يا بني صعبٌ عليك أن تدرك حجم خسارتنا، هذه الأرض هي تاريخ طفولتي ومرتع صباي، وعملت على بناء بيت واسع وجميل تحيطه حديقة تكسوها أشجار الفواكه المثمرة، وكان الاستقرار والكرامة الإنسانية الصفة المميزة لحياتنا ومعيشتنا على الأرض التي عمرناها وأغدقت علينا بجود كرمها، وكنا نعيش في أمن وأمان قبل أن تداهمنا هذه المأساة، وطوال شبابي كنت أعمل لأن يكون لنا دار تؤوينا في مرحلة الشيخوخة. إنه الحلم الذي ذهب في مهب الريح، فقدنا كل شيء ولم يعد لنا بريق أمل نعيش من أجله كما كنا نحلم، وليس هناك ما يعوّض ما فقدناه.

وعلى الرغم من ما يتميز به من صلابة في مواجهة المحن إلا أن علامات الإنهاك من ألم المأساة وتأثير الإشعاعات كانت واضحةً على صحة الرجل، حيث أخذ نظره في الضعف حتى فقد بصره، وترك ذلك أثره على صحته وبنيته الجسمانية، وكان لقاؤنا الأخير في عيد ميلاده الستين حيث توقف قلبه الطيب بسكتة قلبية بعد فترة وجيزة من ذلك اللقاء.

وبعد رحيل العم نيقولاي كانت علامات الحزن باديةً على وجه الخالة نينا، تلك المرأة الطيبة والوقورة التي كانت كلما تقابلني تدعوني لزيارتهم وتجلس تحدثني عن آلامها وأحزانها، وقد بدأ المرض يفتك بتلك المرأة الرائعة، وعندما شعرت بقرب رحيلها أرسلت ابنتها «لينا» في طلبي للحضور على عجل. دخلت عليها ووجدتها في حالة مأساوية لا تقوى على الحديث، وأخذت في التحدث ببطء وهي تتألم من شدة المرض، ولعلمها بأنني كتبت عن أحداث كارثة تشرنوبل، قالت لي: «أوصيك يا بني وتلك أمانة، إذا كتبت يوماً عن مأساتنا لا تنسى أن توجّه رسالة إلى العالم أن يبتعدوا عن هذا المستنقع الخطير والمدمّر للبشرية».

ومن ضحايا تشرنوبل أيضاً الممرضة «تونيا» الرائعة في جمالها وأخلاقها. كنت أعرفها عن قرب، تزوّجها صديق لي من سورية وغادر إلى بلاده على أمل العودة ليلتحق بها، بيد أن الظروف لم تسعفه. أنجب منها طفلة وظل صديقي يحن للقائها، وبذل جهوداً غير عادية لتحقيق ذلك الأمل، وبعث إليها سيلاً من الرسائل، وكان الجواب الذي يتلقاه من أمها ينصب في قالب واحد «إنها لا تريد الحديث معك»!

ردود غير مفهومة وضعت صديقي في حيرة، وكان عاجزاً عن فهم ذلك الموقف، وبحكم الصداقة الحميمية التي تربطنا منذ أيام الدراسة قرّر طلب المساعدة مني لفك رموز ذلك الموقف، وعندما وصلتني الرسالة أخذت رقم الهاتف واتصلت على الفور، وتحدثت معي أمها بلطف وأدب وسألتني: ماذا تريد؟ فأجبتها: أريد أن أتحدث مع تونيا. فأجابتني: ليس بمقدورها التحدث إليك، فقلت لها وما الذي يمنعها من الحديث معي؟ فقالت: لقد صعدت روحها إلى السماء!

صدمت بالخبر وصمتّ، والمرأة المسكينة واصلت حديثها، وكنت أستمع إليها وهي تروي حكاية رحيل ابنتها تونيا التي كانت ضمن فريق الممرضين الذين أشرفوا على علاج وحدة الدفاع المدني في تشرنوبل، وكانت أجسامهم مشبّعةً بالاشعاعات، وقالت «إنهم كانوا بمثابة مفاعلات نووية بشرية»، ولم تدرِ أنها تعوم في محيطٍ من الإشعاعات النووية. نعم لم تكن تدرك ما الذي ينتظرها!

كانت تعمل بروح من الوطنية والإنسانية لإنقاذ الضحايا، وأدى ذلك إلى تشبّع جسمها بالإشعاعات، وعانت كثيراً من آلام المرض حتى رحلت إلى جوار ربها لتبقى هناك في اطمئنان وسكينة.

إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"

العدد 3919 - الخميس 30 مايو 2013م الموافق 20 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً