تجربتي مع الرقابة في مجال التأليف مضحكة ومضحكة أيضاً، لا بكاء فيها؛ لأن البكاء لا يمارسه الإنسان هكذا اعتباطاً. لا يبكي مخلوق إلا حين تصاب قيمته في مقتل. القيمة هنا متعددة، خذها من فراق من تحب بشكل مؤقت أو نهائي؛ أو أن تكون موضوعاً لممارسة عُقَد وأمراض عليك؛ لذا لم ولن أبكي يوماً لمصادرة كتاب أو التفتيش في نواياي ونوايا اللغة التي كثيراً ما أحب أن تكون ماكرة!
في دولة خليجية نهاية تسعينيات القرن الماضي قدّمت مجموعةً ظلت في الأدراج لأشهر. الوكيل المساعد لشئون المطبوعات والرقابة في الإعلام، تاجر عقارات ولديه مجموعةٌ من الفنادق والمكاتب السياحية، ويشغل منصباً رسمياً لا يدري بتفاصيله اليومية. على سفر دائم لمتابعة أعماله الخاصة وبمسمّاه الوظيفي يتحكّم في ما تكتب أو لا تكتب!
فوجئت باتصال هاتفي عبر رقم يبعث الريبة والرعشة لمستقبِل المكالمة. رقم متناسق. رقم يشي بجهة هيمنة وقرابة على مصيرك. ذهب ظني إلى أنه رقم جهة أمنية. الابتلاء الذي ظلّ يطارد أكثرنا داخل الوطن وخارجه. تجاهلت الرقم. تكرار الاتصال يبعث على الفضول. قد يكون رقم جهة لمسابقة اشتركتَ فيها ونسيت. نتحدث عن وهم مئات الآلاف يظفر بها شخص بعد أن يتم جني ملايين ممن يخرجون من «المولد بلا حمّص» ولا حتى «قرص محروق».
في المرة الرابعة أو الخامسة وضعت نفسي أمام تصوّر أو افتراض دائماً ما يشجّعني على المبادرة فيما يُخشى منه: لا إعدام في الأمر! رددت على المكالمة. بلهجته المصرية المحبّبة والدماثة طلب حضوري في اليوم التالي للمكالمة لمقابلة الوكيل المساعد بشأن مجموعتي الشعرية. قلت: أية مجموعة؟ رد: «انته حضرتك أدمت كم مجموعة»؟. شهور أنجزت فيها مجموعتين وأسقطت من ذاكرتي المجموعة التي من المفترض أن يمنحها الرقيب بركاته ودعاءه. كرّرت السؤال: أية مجموعة؟ رد: «حاجه فيها ضجر مش فاكر العنوان... لحظة يا فندم»... صمت ... يرد: «آه... حين يندم الذئب».
حضرت في اليوم التالي استقبلني شخص في أتم صحة وعافية وشعرت أنه أخذ صحة وعافية جيرانه وزملائه في الوزارة والمجمّع الذي بعد الزيارة. دمثاً كان أول الأمر، غبياً كإشارة مرورية انفصلت عن دائرة المراقبة! فصارت ترقص بألوانها الحمراء والصفراء والخضراء في ذروة خروج الناس إلى أعمالهم في السابعة صباحاً!
لم يطلْ كثيراً: «... كتابك تم رفضه. لم يقل المجموعة للتمييز! لماذا؟ سألتُ. أجاب تعرّضْتَ لاستجوابات ثلاثة من أمن الدولة، والسبب الآخر لم يفهم الإخوة في الرقابة على المطبوعات ما ترمي إليه سوى التقاطهم لمصطلحات مذهبية ودرءاً لمساءلتهم مستقبلاً لم تتم إجازة الكتاب»!
شكرته. قبل أن أغادر أضاف: «اسمك أيضاً كان من أسباب رفض إجازة الكتاب». بتهكّمي المعهود رددْت: «هل أغيّر اسمي إلى ناهد كي تتم إجازة الكتاب»؟ ضحك بصدق ورد: «أضمن لك أن يكون في السوق خلال أسبوع». رجعنا إلى منطق السوق الذي يتعامل به والعقارات ومجموعة الفنادق والمكاتب السياحية. الذئب مازال يعوي في ضجره ولن يتوقف عواؤه وضجره إلا بناهد!
***
في موضوع الرقابة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. أتحدث عن تجربتي وقت بدأتُ النشر قبل أن أمتهن العذاب (الصحافة) لأكثر من ربع قرن. في السبعينيات كان الأمر أشد كارثيةً ووبالاً. كُنتَ لا تفرّق بين الرقيب على المطبوعات والمقالات وبين رجل أمن مختصّ بنزع الأظافر، وفي أقل تقدير، نزع الاعتراف منك بحرمانك من النوم واقفاً لساعات. عبر كتب ثمانية بعضها مشترك وأكثر من 16 مخطوطاً بين دراسة وبحث وشعر فصيح وعامي وقصص قصيرة ورواية يبدو أنها لن ترى النور «سماء العزلة» إلا إذا غيّرت اسمي إلى هيفاء وهبي بدلاً من اسمي تقف على المفارقة، أن الرقيب لا يحتاج إلى القراءة والفهم؛ لأن الرقيب على المطبوعات لا يقرأ أساساً؛ وإذا قرأ يقرأ بحس أمني يمكن أن «يودّيك في 92 داهية» إذا أراد ذلك.
لا نستطيع الاستشهاد بالغرب لأن لا رقابة مطلقاً على المطبوعات التي تأخذ رقماً دولياً وتطبع في مؤسسات مرخّصة بدءًا من دور النشر الكبرى وصولاً إلى مجلات البورنو. على الأقل نتحدّث عن دول عربية ازدهرت فيها صناعة الكتاب كمصر ولبنان حتى قبل عقد إلا قليلاً. هناك لا يمكن لرقيب على المصنّفات عموماً من مقروء ومسموع ومُشاهد أن يمارس دوره ما لم يكن من الأسماء التي تحصّلت على مستوى ودرجات من المعرفة وحتى الإنتاج تمكّنه من تجاوز حاسة التقييم عبر محاكمة النوايا وإخضاع التأويل لمسار وحاسّة أمنية مطلوبة منه.
***
هل نبالغ في الأمر حين نقول إن المسئولين عن فحص وقراءة وإجازة المطبوعات في العالم العربي؛ وخصوصاً في منطقة الخليج لا علاقة لهم بالمطبوعات من حيث قيمتها. التابع لا يمكن أن يكون مستقلاً؛ وخصوصاً في الأفكار التي ترمي إلى تجاوز التغييب والاستهبال والاستحمار!
يستمر ندم الذئب وضجره وعلى كل كتّاب منطقتنا أن يُعيدوا النظر في أسمائهم كي يتمكّنوا من تعطيل الحاسّة الأمنية للرقيب!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3915 - الأحد 26 مايو 2013م الموافق 16 رجب 1434هـ
زين سووا وفروا عليك فلوس
من انت ؟ مصدق نفسك انك كاتب ؟ كل واحد مسك قلم قال انا كاتب .....عدال يا نجيب محفوظ زمانك
شكلك انت اللي كاتب
واكو عنده عمود محترم في جريدة محترمة يعني كاتب ولغته سليمة ضحكتني ما ادري وش حارنك
تأخرنا
تشبث البشر بأفكارهم و عقائدهم فى كل العصور و عدم الإعتراف بالتغيير و التطوير هو السبب الرئيسى للتأخر عموما. لو كان البشر يقبلون بأن أفكارهم اليوم بالية بالنسبة الى يوم غد لتغير وضعنا. لكن لم يتعرف البشر على أخطائهم و نواقص عقولهم حتى الآن.