العدد 3892 - الجمعة 03 مايو 2013م الموافق 22 جمادى الآخرة 1434هـ

حاجتنا الماسَّة للرأي العام

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في حياتنا، ليست الأشياء كلها ثنائية. بمعنى، أن هناك «نعم» وهناك «لا». لكن أيضاً، هناك «ربما» تقع في مكان ما. وهناك «صدق» و»كذب». لكن، هناك أيضاً «مُجاملة». وقد قيل: «جَامِلوا الأشرار بأخلاقِكُم تأمَنوا غوائلهم، وبايِنُوهُم في أعمالِهِم لكي لا تكونوا منهم» (الرسول الأعظم).

وهذه الأشياء، غير الخاضعة للثنائيات «الحادة»، تتمتع بالاستقلال التام، وبالتالي فهي ليست مُستَولَدَة من الـ «نعم» أو الـ «لا» أو من «الصدق» أو «الكذب»، كتلك التي تُستَخرَج من المساحة الفاصلة بين الشيء وضده، وتحمل صفة «رجراجة». وما دامت هي كذلك، فهذا يعني أنها تأخذ ذات المنزلة.

وعند التفكير في الشَّكليْن (الحاد والرجراج) يتضح لنا بأن درجة اليقين بينهما تختلف. فحين تصدِّق شيئاً ما، فأنت تفعل عندما تتوفر القرائن المثبِّتة له والمشاهدات حوله. وعندما تكذِّب شيئاً، فأنت تفعل ذات الشيء، لذات الأسباب. أما المرحلة الفاصلة، فاليقين فيها أقل كونها غير معنية بإعطاء نهاية سلبية أو إيجابية للشيء، فتجعله معلقاً.

لكن، تبقى تلك الثنائيات (الحادة)، التي تتسم باليقين الكبير، عرضةً للتآكل رغم وضوحها، في حين تأخذ الأشياء غير الثنائية (الرجراجة) مجالها في التعاظم والثبات وكأنها الأصل. وهنا يأتي التساؤل، حول أسباب حصول مثل هذا الأمر، الذي هو ضد منطق الأشياء وضد بداهتها حتى؟

الحقيقة، أن أغلب الأشياء الموجودة في حياة البشر، تحتاج إلى روافد تدعمها. فقليلة هي الأشياء التي تنهض بغير داعم وسَنَد، سواء أكانت مادية أم معنوية. فكما النصر (كفعل) لا يتحقق إلاَّ بروافد، فإن المناظرة (كقول) لا تُؤثر في الآخرين إلاَّ بقوة بيانها واستحضارها السريع للحجج والبراهين، وهكذا دواليك.

من هذا المنطلق، فإن حياتنا نحن البشر مليئة بالأقوال والأفعال الخاطئة والصحيحة معاً. وفي كلتا الحالتين، يحتاج الخطأ (كما الصواب) إلى مَنْ يظهره كخطأ بشكل جَلِي وواضح. بمعنى، تبيين سلبية الخطأ وتعريته، وتبيين إيجابية الصواب وتكريسه ودعمه.

هنا، تظهر لدينا أهمية ما يُسمَّى بـ «الرأي العام» لمواجهة أخطائنا السياسية والاجتماعية، وكذلك الحال بالنسبة لأفعالنا الصائبة لتكريسها. فكثيرةٌ هي الأخطاء التي يرفضها المجتمع إلاَّ أنها تصبح عصيَّةً على الانحسار، والسبب أن رأياً عاماً لم يتشكّل بعد لمواجهتها وتعريتها.

في غير مرة، أقوم باستقراء مواقف وآراء عديد من الناس تجاه أفعال غير سليمة، بل وتتسم بالجنون أحياناً، فأجد أن نسبة عظمى تنظر إليها بذات المنظار المخطِّئ لها، إلاَّ أن هذه النسبة، لا تستطيع أن تتبلور في شكل رأي عام، يستطيع مواجهة تلك الأخطاء، لأسباب متعددة، بعضها ديني وآخر سياسي وثالث ثقافي.

لقد تحدثتْ العلوم السياسية ودراسات الإعلام عن «الأغلبية الصامتة» في المجتمعات تجاه قضايا عامة محددة. والحقيقة، أن هذه الأغلبية هي بالأساس قيمة عددية ذات سطوة إذا ما تمَّ تحريكها نحو تكوين الاتجاه العام النفسي ثم السلوكي، ليصبح لاحقًا رأيًا عامًا، إلاَّ أنها تبقى مُجوَّفة، إذا لم تتحوَّل إلى سلطة معنوية تجاه قضايا المجتمع، فتتصدى للغث، وتدفع بالسمين.

المشكلة أن هذه الأغلبية لا ينقصها أي تجانس لكي يُسمَع صوتها عاليًا. فالرأي مُوحَّد. والشعور بالانتماء قائم. والمصالح بينهم مشتركة. والوحدة الاجتماعية متحققة بشكل كبير، فضلاً عن المعرفة والقيم المشتركة والسلوك والمعتقدات والأرض والعادات والميول والحالة الأسرية. والأكثر من ذلك، هو ما وُجِدَ في حاضرنا اليوم من ثورة اتصالات هائلة جعلت من عالمَنا صغيرًا متجاورًا مع بعضه، وبدون أسوار أو فواصل، أو مسافات بعيدة كالتي كانت في السابق.

وبالتالي، فإن كافة متطلبات وجود رأي عام قائمة، ليبقى السؤال قائمًا: أين المشكلة إذًا؟ باعتقادي، أن القضية متعلقة أساسًا بضرورة وجود أطر سياسية وثقافية واضحة لدى الفرد والجماعة ليس بها أدنى غموض. والأمر الآخر، الذي يضاف إلى تلك الأطر، هو وجود مساحة كبيرة من «النقاش العام» في المجتمع ومحافله المفتوحة والمغلقة دون ضير أو خوف أو قمع جَمْعِي.

عندما يُدرك المجتمع أن عليه أن يُحدد مساره السياسي والثقافي بشكل صحيح وسليم، ويسير فيه كزخم شعبي متماسك، حينها سيكون أكثر اندفاعًا للظهور بصورته الحقيقية، التي لا يخشى إن ظَهَرَ بها أمام الجميع، تسنده التكنولوجيا الحديثة، وسطوة الاتصال البرقي، لتمنحه قواعد ثابتة للظهور وإبراز الذات والتنافس مع بقية الأفكار.

قبل فترة تحدثتُ وقلت، بأن الرأي العام في السابق كان جنينياً في حجمه وصوته، وبالتالي لم يكن قادراً على فرض واقع معيّن على الحراك الاجتماعي أو السياسي بين عموم الناس ونخبهم. والجميع يتذكر، أن الكثير من الفرنسيين في بيرون لم يصلهم خبر سقوط سجن الباستيل إلاَّ بعد ثمانية وعشرين يوماً رغم أنهم لا يبعدون عن باريس سوى بـ 133 كم! لكن سرعة حياتنا اليوم بدت مختلفة جداً.

إذا كانت المجتمعات قد استطاعت أن تؤسس لنفسها رأياً عاماً فعالاً ضد الاستبداد ونحو التغيير، فباستطاعتها أيضاً أن تؤسس ما يعينها على مواصلة مسيرتها بتلافي الأخطاء السياسية والاجتماعية، وهو الأقل كلفة، كونه يعتمل في بيئة أكثر انسجاماً، ويواجه أفكاراً شاذة ومحدودة.

إن هذه القضية تبقى متوازية مع أي تطور اجتماعي ينشد التغيير. إذ لا يُمكن أن تسير عمليات التغيير بأحمالها الخاطئة، لتكتشف لاحقًا أن تُرهِق نفسها دون لازم. خلاصة القول، أننا في أمَسِّ الحاجة إلى رأي عام لمواجهة التحديات، وقبل ذلك، حاجتنا إلى أطر سياسية وثقافية تجعلنا نستلك باتجاه تشكيل مثل ذلك الرأي العام.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3892 - الجمعة 03 مايو 2013م الموافق 22 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 5:15 ص

      غريب

      من أغرب سلوك بعض البشر أنهم لا يترددون في ارتكاب الأخطاء لكنهم يترددون في فعل الصواب

    • زائر 1 | 3:20 ص

      شكرا

      الرأي العام يحتاج إلى جرأة فردية لدى المرء وقدرة على تشجيع وتحفيز الآخرين على اتخاذ ذات الموقف بذات الحماس
      شكرا

اقرأ ايضاً