كارثة تشرنوبل النووية الحدث المأساوي الذي على الرغم من مضي فترة ليست بالقصيرة من تاريخ أحداثه المؤلمة، لايزال يطرح تساؤلاته العديدة على المجتمع الدولي، ويرسل نداءاته من قبور ضحاياه ومن طابور المرضى والمعاقين، بضرورة مراجعة السياسات العرجاء في تبني استراتيجية الردع النووي والتنمية غير المدركة لمخاطر هذا الشبح والجرثومة القاتلة. إنها نداءات إلى من يهمه أن يفهم أبعاد مخاطر السير في نفق عالم الأشباح النووية المظلم.
تشرنوبل حكاية كان لها بداية، ويبدو أنه لن يكتب لها نهاية، فالأرض والأشجار ومكونات النظام البيئي لتلك البلدة البسيطة تسكنها الأشباح الشريرة للمخلفات الإشعاعية التي قذفها المفاعل الرابع في محطة تشرنوبل النووية، وتعيش حالة ألم متواصل، بيد أن علاجها وتأهيلها لتكون صالحة للمعيشة يبدو طموحاً بعيد المنال. فشبح الإشعاعات النووية الشريرة عالم غريب ومخيف وغير مرئي، ويخشى أي عاقل أن يقترب من محيط تلك الأرض وهو يعلم أنها مسكونةٌ بمخاطر شبح الإشعاعات، وهي المخاطر التي ليس في مقدور حتى أكثر البشر جرأةً وشجاعةً على المغامرة في الاقتراب من هناك ومواجهة مخاطر ذلك العالم الموبوء بتلك الأشباح التي لا تعرف للرحمة طريقاً.
وعلى الرغم من المسافة التاريخية التي تفصلنا عن ذلك التاريخ المشئوم، والتي تمتد إلى نحو 27 عاماً، إلا أن المأساة التي دشّن بدايتها ذلك الانفجار المدوي في محطة تشرنوبل النووية في 26 أبريل/نيسان 1986 ونشر سموم إشعاعاته في فضاء محيط تلك البلدة الوادعة، لاتزال باقية وتؤكد حضورها في أزقة المباني الخالية من ساكنيها، وبين غابات أشجارها وحقولها المهجورة، التي صارت شبحاً يخيم بظلاله المأساوي على تفكير ومخيلة ضحاياه، وفي ذاكرة تاريخ تلك البلدة الجميلة التي صارت مدينة للأشباح. إنها المأساة المتجددة في حكايات مفاصلها الانسانية، التي تواصل مسارها مع ولادة طفل معاق ومع نبأ وفاة شخص تعرفه عن قرب أطاح به المرض الخبيث الذي صار علامةً مميّزةً لضحايا تشرنوبل النووية.
الحديث عن كارثة تشرنوبل النووية يعيدنا إلى لحظات مخيفة ومؤلمة في ذلك المسلسل، وعلى الرغم من كل ذلك ينبغي أن نتمعن أبعاد معانيها، فهي حادثة أعطتنا دروساً في حياتنا، في كيفية التأمل والمراجعة والتروي في معالجة واتخاذ المواقف الصائبة للخروج بأقل الأضرار والخسائر. نعم في ذلك اليوم المشئوم كنا نعيش في دوامةٍ لم نكن ندري ماذا نعمل وإلى أين المفر للنجاة من هذا الخطر الذي يعيش بيننا ولا نشعر بوجوده.
في ذلك اليوم كنت على موعد للقاء إحدى الموظفات في مركز قياس التلوث في مدينة كييف، لتسلّم بعض الدراسات الخاصة بالتلوث، للاستفادة منها في موضع البحث الخاص الذي كنت أعده لرسالة الماجستير في القانون الدولي لحماية مياه الخليج من التلوث، والتقيت في الطريق أحمد عبيدات من الأردن، وكان يتجوّل في شوارع المدينة الجامعية في الصباح الباكر، وكانت الشوارع شبه خالية حيث لايزال الطلبة العرب يغطون في سبات عميق. وكان صاحبنا يتجول بمفرده يبحث عن أحدٍ يبادله همومه ومخاوفه، وكانت علامات الخوف بادية على وجهه، ما أوحى لي بأن أمراً خطيراً قد حدث، وما لم يدر في خلدي أن هناك انفجاراً في محطة تشرنوبل النووية. توقفت لأتبيّن الأمر فبادرني بالسؤال: هل تصدق ما سمعته اليوم من خبرٍ بثّه راديو لندن؟ فقلت له: وما الذي سمعت؟ فقال: انفجار في محطة تشرنوبل النووية. صمت قليلاً ثم قلت له: لا أستطيع أن أقول أي شيء، وكل شيء قابل للوقوع في هذا الزمان!
تركت صاحبنا ووليت مسرعاً لكي لا يدركني الوقت، وفي تلك الحديقة الجميلة الواقعة بجوار نهر الدنيبر، حيث موقع لقائنا انتظرت طويلاً، وأنا أنظر في مياه النهر الهادئة، وأرقب حركة القوارب، وأشاهد المارة المتجهين إلى ضفاف النهر، وكأن شيئاً لم يحدث. وعندما فقدت الأمل في اللقاء، اتصلت لمعرفة السبب وكان الرد حزيناً، واستقبلته بحزن عميق، وكانت وطأته على نفسي كالعاصفة المدمرة، جعلتني أعيش حالةً من الصمت والتفكير العميق، في انتظار المجهول، وما يخبئه ذلك المجهول من مفاجآت كارثية للإنسانية، يمكن أن تتسبب في الإخلال بتوازن نظام البيئة العالمية وتهدد الأمن البيئي لكوكبنا والجماعات البشرية في البقاع المختلفة من العالم.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 3891 - الخميس 02 مايو 2013م الموافق 21 جمادى الآخرة 1434هـ