إن الحَوْكَمة والحكامة والحاكمية (Governance) كلها تصبُّ في معنى واحد ولكن بعدة مقاربات، فتارة في النظريات الفلسفية وتارة أخرى في المجال السياسي كممارسةٍ تهدف إلى حسن التدبير واللاتمركز في اتخاذ القرار وتفعيل مبادئ الشراكة والمسئولية وتكافؤ الفرص والشفافية والمساءلة وترشيد النفقات، وهي من مقتضيات دولة الحق الضامنة لاحترام القوانين ولأمن المواطنين وكرامتهم.
على المستوى التربوي، فإن «الحوكمة» تعني التدبير الجيد لعمليتي التعليم والتعلّم وتقييم أثرهما وفعاليتهما من خلال اكتساب المتعلمين للمعارف والمهارات وقيم العيش المشترك داخل الجماعة، عبر التشارك والتعاون والتفاعل في صنع القرارات، والتشجيع على المبادرة والتعلّم الذاتي؛ ليتعرف المتعلّم على قدراته وإمكاناته.
قديماً، ارتبطت «الحوكمة» بالحقل التعليمي في البحرين، إذ كان التعليم مدعوماً من قِبل الأهالي والسكّان المهتمين بتعليم أبنائهم وبناتهم عبر ما كان يُعرف آنذاك بالكتاتيب (المطوّع)، قبل أن ينطلق التعليم النظامي الرسمي في العام 1919 بتأسيس مدرسة الهداية الخليفية.
أما الآن، فلاتزال المنظومة التربوية في الوطن العربي بشكل عام مقيّدة بأسلوب المركزية والأحادية في صنع القرارات، والتهميش الواضح لدور ممثلي مؤسسات المجتمع المدني والمكونات الأخرى التي تساعدنا على الارتقاء بجودة التعليم من خلال المشاركة الفعالة لهذه القطاعات المهمة والحيوية في المجتمع.
حسناً فعلت الأمم المتحدة لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية لما بعد 2015 عندما اتخذت قراراً فريداً من نوعه بأخذ رؤى وتصورات ومقترحات ممثلي مؤسسات المجتمع المدني، فالمرحلة المقبلة تقتضي منا الأخذ في الاعتبار عند إعدادنا لخطتنا الوطنية للتربية والتعليم دور المكونات المؤثرة في العملية التعليمية كالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وعدم تكرار الأخطاء ذاتها في الانسياق المطلق لآراء وتوجهات المنظّرين التربويين والمستشارين الذين طالما تغافلوا دور هؤلاء الفاعلين وغيرهم كالمعلمين الأفاضل والإدارات المدرسية وأولياء أمور الطلبة والجمعيات والنقابات والمؤسسات والهيئات ذات العلاقة بالتعليم، فـ «المؤسسات التعليمية لن تكون إلا ما أراد لها المجتمع أن تكون» كما قال البعض، وذلك لن يتحقق إلا بوجود إرادة سياسية تؤمن بمبادئ حقوق الإنسان والمشاركة المجتمعية، من خلال اللامركزية في اتخاذ القرارات وتنفيذها بالشكل الملائم على أرض الواقع، وتوفير أجواء الثقة المتبادلة بين الأسرة والمدرسة من جهة، ومد جسور المصالحة الفعلية بين المدرسة والمجتمع من جهة أخرى.
وللارتقاء بالتعليم، وجعل المدرسة البحرينية مدرسة متميزة ومفعمة بالحيوية فإن علينا مسئولية اعتماد «حوكمة جيدة» في تدبير أمورها، من خلال الوقوف على المفاهيم والمتطلبات العالمية في «الحوكمة»، وهي:
العدالة الاجتماعية، النمو الاقتصادي المطّرد، المساواة وتكافؤ الفرص، الديمقراطية والتشارك في ظل التعددية، سيادة الحق والقانون على الجميع بلا أدنى استثناء، محاربة الفساد والرشوة في مختلف نواحي الحياة، احترام مكونات المجتمع المدني والإنصات الإيجابي إليها، اعتماد اللامركزية في تدبير الشأن العام، توسيع مساحة إسهام وسائل الإعلام في جهود التنمية، احترام الاختلاف والرأي الآخر، اعتماد سياسة تربوية وتعليمية تهدف إلى تحقيق القدرة على إنتاج المعارف وليس على استهلاكها فحسب، العناية بمؤسسات المجتمع المدني بوصفها شريكاً لا غنى عنه، توخي الصدق والنزاهة والشفافية والمساءلة وخدمة المصلحة العامة دون المصلحة الخاصة، الالتزام بتطوير التشريعات والقوانين تبعاً لتطور الشئون والقضايا المطروحة، احترام وتفعيل المواثيق الدولية ذات العلاقة بحقوق الإنسان.
صحيح أن العالم من حولنا يموج بالكثير من التحولات السياسية والهزات الاقتصادية، ولكن ما يجب فعله الآن أكثر من أي وقت مضى ضمن خططنا الاستراتيجية نحو بناء نموذج للمدرسة البحرينية للألفية الثالثة، التفكير بذهنية كونية تدرك خطورة هذه التحولات وتأثيرها على مستقبل أبنائنا، ووضعها في سياقاتها كقيم ومعارف ومهارات حياتية وموارد قابلة للتطبيق في مدارسنا؛ لتكون مدارسنا قادرة على إثارة الدافعية والحماس لدى الطلبة من مواليد الألفية الثالثة ممن تجاوزوا مفهوم الأمكنة الكلاسيكية الضيّقة والمؤطرة بالأسوار والصفوف الدراسية، وحطّموا كل مفردات الحدود الجغرافية والهويات المغلقة.
ولكي نضمن لمدارسنا قدرتها على تثبيت سلطتها المعرفية كمؤسسة كبرى للتنشئة الاجتماعية، فإن الممارسة الأولى لـ «الحوكمة» للمدرسة البحرينية للألفية الثالثة تبدأ بإعداد وثيقة وطنية للتربية والتعليم، تشارك فيها جميع الفعاليات البحرينية، من جمعيات ونقابات وباحثين مختصين ومختلف القوى المدنية؛ لنرسم معاً تعليماً ملائماً لاحتياجات العصر.
دعوتنا موجهة للمسئولين وصناع القرار والباحثين والمهتمين والغيورين على مستقبل التعليم في البحرين، التفكير بجدية في الصيغ والمبادرات الكفيلة بتضمين مناهج «الحوكمة» في مقاربتنا للشأن التعليمي، وجعل المدرسة البحرينية ملكاً للجميع، والدفع باتجاه مبدأ المشاركة المجتمعية لبناء نموذج راقٍ لمدارس الألفية الثالثة.
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3879 - السبت 20 أبريل 2013م الموافق 09 جمادى الآخرة 1434هـ