قبل ثلاثة أسابيع، وتحت عنوان «خواطر في التنوير وإخفاقات النهضة»، قدمنا مدخلاً أولياً لقضايا التنوير العربي، وإخفاقات النهضة. وقبل عشرة أيام من هذا التاريخ، عقدت الدورة الثامنة والعشرون لمهرجان الجنادرية الثقافي، في العاصمة السعودية الرياض، وكان التنوير العربي وإخفاقات النهضة هو أحد المحاور الرئيسة، التي حملتها عناوين الندوات الثقافية، في المهرجان، وقد كان لي شرف المشاركة فيها.
ويقيناً أن الفصل بين عصر الأنوار الأوروبي، واليقظة العربية التي ارتبطت بها حركة التنوير، هو عملية تعسفية. فالأخيرة ارتبطت بالأولى، من حيث إن معظم رواد التنوير العرب، كانوا متأثرين في كتاباتهم وتنظيراتهم بعصر الأنوار الأوروبي، وبشكل خاص أفكار الثورتين الإنجليزية والفرنسية. وقد عاش بعضهم في أوروبا، منذ منتصف القرن التاسع عشر، إلى ما بعد الحربين الكونيتين. وبرز من بينهم الشيخ محمد عبده الذي عاش في باريس، واشتهر بمقولته، «وجدت هنا في باريس إسلاماً، ولم أجد مسلمين، أما في مصر، فقد وجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً».
والجانب الآخر، في العلاقة بين الأنوار والتنوير، هو أن تطور عصر الأنوار، وانتصار الثورات الاجتماعية، وبزوغ الأنظمة الرأسمالية في أوروبا، وتحوّلها بحكم قوة الأمر الواقع، إلى بلدان استعمارية، واتجاهها إلى قلب العالم الثالث، بحثاً عن المواد الخام والثروات الطبيعية والأسواق، قد جعل من الوطن العربي، هدفاً في عمليات الاحتلال، بما أدى إلى دخول مراكز النهضة العربية، مرحلة التنوير، وهي مثقلة بتواريخ الاحتلال الأجنبي، بأشكاله وهوياته المختلفة، عثمانية وبرتغالية وإسبانية وإيطالية وفرنسية وإنجليزية.
لقد كانت حركة التنوير، في ملامحها العامة، هي محاكاة، باهتة ومشوّهة، لعصر الأنوار. ومن هنا يأتي توصيف الفصل التعسفي، على أية محاولة جادة تحاول قراءة حركة التنوير، بمعزل عن عصر الأنوار.
أشرنا في حديث سابق، إلى أن عصر الأنوار، في جوهره هو انتقال الحركة الثقافية والإبداعية في أوروبا من الميدان الروحي، وهيمنة الكنيسة إلى الميدان العلمي والعملي والصناعي. وكانت خلاصة رؤيته هي الفصل بين ما لله وما لقيصر.
كان الفيلسوف الإنجليزي، روجرز باكون قد أنكر الاعتقاد الشائع بأن الأشياء وجدت كما هي قائمة ومقررة، موضحاً أن للظواهر الطبيعية أسباباً يجب التفتيش عنها. وبرز باسكال وديكارت، وهما فيلسوفان مثاليان ربطا الوجود بالفكرة. وفي نفس الحقبة نشر دانتي ملحمته الشهيرة «الكوميديا الإلهية». ومن جانب آخر، شهدت القارة الأوروبية حركة واسعة للإصلاح الديني، قادها مارتن لوثر وجون كالفن. وأكد العالم الإيطالي غاليليو، من جديد نظرية كوبرنيكوس في دوران الأرض حول الشمس. وفي العام1777، اخترع جميس وات المحرّك البخاري، فاستبدلت المراكب الشراعية بالبخارية. وأديرت خلال تلك الحقبة، الأوضاع الاجتماعية بأوروبا على قاعدة الحق الإلهي. وقد دفعت معاناة الشعب من الظلم، بمونتسكيو إلى الاهتمام بالبحوث الحقوقية التي تحدّد علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث جعل من كتابه «روح القانون» مرجعاً مهماً في أصول التشريع.
وأصدر المفكر الفرنسي، جان جاك روسو كتاب «العَقْد الاجتماعي» الذي طالب بأن تستند العلاقات بين الحاكم والمحكوم، إلى أسس تعاقدية. وتألق نجم الأديب والفيلسوف فولتير، الذي أعلن حرباً لا هوادة فيها على التصلب الديني.
بعد انتصار الثورة الفرنسية على الحكم المطلق، أقرت الحريات السياسية والدستور، وتحددت مفاهيم الدولة الحديثة، فالأمة وحدها مصدر السلطات، وأقرت حقوق الأفراد في الاعتقاد، وحرية الكلام والتعبير، وأن الملكية الفردية مقدسة لا يجوز انتزاعها إلا إذا قضت المصلحة العامة ذلك، ولقاء تعويضات مالية.
قراءة حركة التنوير العربية، تمثلت في بروز حركة أدبية وفكرية وسياسية واسعة. فقد أنشئت الجمعيات العلمية، وترجم بطرس البستاني التوراة إلى العربية، وألف «معجم المحيط»، ومعجم «قطر المحيط»، و»دائرة المعارف». كما ترجم سليمان البستاني «إلياذة هوميروس» إلى العربية شعراً. وألف ناصيف اليازجي «مجمع البحرين». ونشطت الحركة الصحفية، فصدرت الوقائع المصرية في العام 1838، وكان من أوائل المحررين فيها الشيخ رفاعة الطهطاوي، والشيخان حسن عطار، وأحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين والشيخ محمد عبده.
وبرز بين روّاد الحركة، جمال الدين الأفغاني، ومحمد فريد وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والشيخ طاهر الجزائري، والشيخ حسين الجسر، وعبدالحميد الزهاوي وبيرم التونسي والطاهر بن عاشور، وكثير غيرهم.
لكن الوطنية في مصر ارتقت وتعززت مع رفاعة رافع الطهطاوي الذي دعا إلى أن يكون الوطن «مكان سعادتنا العامة التي تبنى من خلال الحرية والفكر والمصنع». وتحدث عن رابطة وطنية، مصدرها اللسان. وجاء عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» حاملاً على الحكم المطلق، موضّحاً أن الاستبداد أساس المساوئ، لكونه ينفي العلم ويفسد الدين والأخلاق والتربية. ولقيت كتاباته قبولاً واسعاً على مستوى الوطن العربي بأسره، مسهمة في تنمية الوعي وظهور الاتجاهات الوطنية التي حرضت على بروز نوازع التحرر والاستقلال عن سيطرة العثمانيين، ومقارعة الاحتلال الأجنبي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
كان شعار الحرية، هو المحرّك للكفاح ضد العثمانيين، والاستعمار الغربي لاحقاً. وتأسس النظام العربي، بعد الحرب العالمية الثانية، على قاعدة الصراع بين العناصر اللازمة للنهضة، بين الحرية والعدالة، فقد كان المفكرون المتأثرون بالمعسكر الشرقي يغلّبون فكرة العدالة على الحرية، والعكس صحيح بالنسبة إلى المتأثرين بالمنهج الغربي في الحكم، حين تغلب الحرية على العدل.
انتهت حقبة من التاريخ، بسقوط الاتحاد السوفياتي، وهيمنة «اليانكي» على العرش الأممي، وكان دورنا من جديد هامشياً. انسقنا إلى مهرجان «نهاية التاريخ»، وفقاً لفوكوياما وبلوغ المجتمع الإنساني، مرحلة «النظام العقلاني» على طريقة ماكس فيبر. وعاد الحديث عن الليبرالية والنظام الغربي، والديمقراطية باعتبارها مُثُلاً وقيماً جديدة، رغم أنها سادت في الغرب لما يقرب من قرنين ونصف القرن، منذ اندلاع الثورة الفرنسية.
لماذا غابت شعارات التنوير في الحراك الشعبي، خلال العامين الماضيين، وهل بالإمكان استعادة روح مبادئ هذه الحركة مجدداً؟ ذلك ما سوف نحاول الإجابة عنه، في قراءتنا الاستشرافية بالحديث المقبل بإذن الله.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3877 - الخميس 18 أبريل 2013م الموافق 07 جمادى الآخرة 1434هـ