العدد 3877 - الخميس 18 أبريل 2013م الموافق 07 جمادى الآخرة 1434هـ

النموذج التنموي الديمقراطي الصيني ودلالاته التاريخية

في ضوء أعمال المنتدى الخامس للدارسين للشئون الصينية

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

المثقف مثل الطير الذي وصفه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله «لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطانا». والسفر وصفه الإمام الشافعي بقوله «سافر ففي الإسفار سبع فوائد»، وذكر منها اكتساب الرزق والمعرفة والتعارف.

ولذلك كان العلماء في العصور القديمة كثيري التنقل والإسفار، ومن ثم ازدادوا علماً ومعرفةً وحكمةً. ولذا كنت حريصاً على الاقتداء بهم سعياً نحو حكمة الصين. وعندما تلقيت دعوة في العام 2008 للمشاركة في منتدى الدارسين للشئون الصينية في العالم، الذي تنظمه «أكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية»، بادرت بالاستجابة للدعوة، ومنذ ذلك الحين أصبحت عضواً في هذا المنتدى الذي يعقد كل عامين لاستعراض آراء الدارسين للشئون الصينية الداخلية والخارجية، الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وما حققته من انجازات وما واجهته من صعوبات وتحديات.

وتواكب المؤتمر الخامس مع عملية تغيير ديمقراطي وانتقال للسلطة السياسية من جيل أنهى فترة عمله إلى جيل جديد برؤية جديدة، لمواجهة التحديات واجتياز العقبات والمصاعب وتصحيح الأخطاء السابقة وبناء إطار فكري جديد يحقّق نقلة نوعية في النظام السياسي الصيني، الذي يتميز بثلاث خصائص بالغة الأهمية والدلالة.

أول هذه الخصائص إنه يقوم علي التعايش الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلى حد كبير؛ وثانيها إنه يقوم على البناء التراكمي في إطار التطوير وليس هدم ما قام به السابقون من انجازات، فالقائد الجديد يصحّح الأخطاء دون اتهامات، ويحلّل القضايا ويواصل المسيرة، فلكل قيادة أولوياتها. وثالثها انه يستفيد من تجارب الآخرين وفكرهم بلا عقد بالنقص. ولعل نموذج ذلك في كلمة الرئيس شي جين بنج عندما تحدّث عن الحلم الصيني، ورئيس الوزراء لي كاتشينج عندما عقد مؤتمراً صحافياً في التلفزيون أجاب فيه بحرية وشفافية على التساؤلات التي طرحت دون تردد، واستمر حوالي ساعتين، مستخدماً أدوات التواصل الحديثة المباشر، وقبل تلقي الأسئلة تحدّث لمدة أقل من خمس دقائق، ثم فتح الباب للأسئلة.

واستمعت لهاتين المناسبتين للجيل الجديد من حكام الصين الصاعدة صعوداً سلمياً بتواضع معهود من الشعب الصيني وثقافته وحضارته العريقة التي اعتاد قادتها على الاعتراف بأخطائهم والصعوبات التي تواجههم. فالقيادة الصينية الجديدة لا تتحدث عن انجازات الصين، وإنّما عن الصعوبات التي تواجهها في سعيها لتحقيق أهدافها، ولا تتحدّث عن قوتها العسكرية والنووية والصاروخية والتكنولوجية، وإنّما عن صعودها السلمي وتعايشها واعتمادها على القوة الناعمة. ولا تذكر الاستعمار الذي عانت منه كثيراً، ولا تتحدّث عن المؤامرات الخارجية التي تسعى لإعاقة نمو الصين وتقدّمها، ولا تتناول الصراع الطبقي وحقد المثقفين الرجعيين والإعلاميين المخربين وأنصار النظام القديم.

إن هذه القيادات الصينية تركّز على كوادرها الجديدة وفكرها الجديد، ولا تتحدث عن ماضي الصين وتاريخها وحضارتها، وهي لا تعيش الماضي وإنّما تنظر إلى المستقبل، كما دعا لذلك القرآن الكريم لأهمية التفكر في الآفاق، بقوله «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم»، وفي السموات والأرض؛ وعندما تحدث عن الماضي والحضارات الغابرة وما آلت إليه تحدّث للعبرة والعظة للرغبة في استعادة الماضي. وحقاً ما قاله الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حكمه البالغة «لا تجبروا أبناءكم ليكونوا مثلكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم».

الصين الحديثة تستلهم فكرها من تاريخها وحضارتها في بعض الأساليب والأدوات، فهي تستلهم من مدرسة المشرعين وخصوصاً هان في Han Fei مفهوم القانون واحترامه، ومفهوم القوة العسكرية والنظام، وتستلهم من فكر كونفوشيوس مفهوم التعليم واختيار الكفاءات على أساس المنافسة بين الأكفاء وفقاً لمؤهلاتهم وقدراتهم، كما تستلهم منه أيضاً احترام الفضائل الخمس في العلاقات الاجتماعية. وتستلهم من موتز Mozi مفهوم المحبة الشاملة وتجنب الصراعات والسعي لتحقيق المنافع المشتركة؛ ومن صن يات صن مفهوم وحدة الأمة الصينية والبعد الوطني، لذلك أطلق عليه «أبو الأمة». ومن سن تزو مفهوم الإستراتيجية والفكر العسكري المبدع والخلاق، ومن ماوتسي تونج مفهوم المعالجة الصحيحة للمتناقضات فتحوّل المتناقضات غير الحميدة إلي متناقضات حميدة من أجل البناء والإصرار على تحقيق الهدف بقيادته للمسيرة الطويلة عبر أراضي الصين وأقاليمها. ومن دنج سياو بنج مفهوم البراجماتية والعقلانية والمرونة في بناء صين واحدة بنظامين، والانفتاح والسوق الاشتراكية بخصائص صينية؛ ومن جيانج تزمين مفهوم الرأسمالية الوطنية والزحف نحو الغرب الصيني والدعوة لتضامن المناطق المتقدمة مع المناطق التي لم تنمُ بعد؛ ومن خو جنتاو مفهوم التناغم والانسجام في داخل الوطن ومع العالم الخارجي والتنمية العلمية، وهكذا عمل تراكمي، طبقات بعضها فوق بعض، لارتفاع البنيان.

وقد ترتب على هذا المنهج الصيني أن تحققت نبوءة نابليون عندما قال «دعوا الصين نائمة فإنها إذا تحرّكت اهتز العالم بأسره». ولهذا أيضاً فإن البروفسور مارتن جاك أستاذ الاقتصاد بجامعة لندن للاقتصاد في كتابه المتميز «عندما تحكم الصين العالم»، ذكر في محاضرة في الجلسة الختامية للمنتدى الخامس للدارسين في الشئون الصينية، الخلاصة العملية لدراساته حيث قال إن كثيراً من الباحثين يشاركونه تلك الاستنتاجات، موضحاً أنه في العام 2030 سيمثل الاقتصاد الصيني ثلث الاقتصاد العالمي 33.4% في حين الاقتصاد الأميركي 15% والأوروبي 13%، أي إنهما مجتمعان سيكونان أقل من الاقتصاد الصيني. وأضاف إن الاقتصاد الثاني في العالم سيكون الاقتصاد الهندي 18.6% والثالث الاقتصاد الأميركي والرابع الاتحاد الأوروبي والخامس الاقتصاد البرازيلي 5.1%، ويلي ذلك الاقتصاد الياباني 3.2% ثم الاقتصاد الروسي3%.

ومن هنا دعا مارتن جاك للاهتمام بالصين وفهمها والتعامل معها من الدول الغربية، وأكد عدم جدوى الإنكار والتعالي الذي لا يتناسب مع المنطق العلمي ومع واقع الأوضاع الاقتصادية والسياسية الدولية المعاصرة.

وفي جلسة العمل العامة الأولى، اختار الصينيون أربعة متحدثين في الجلسة العامة الوحيدة، وبعد ذلك كانت جلسات محورية متوازية على مدى يومين، وكان المتحدثون في الجلسة العامة الأولى من الصين والبرازيل وبلجيكا، ومن مصر كاتب هذه السطور. ورغم إشادتي بالتقدم وبالنموذج التنموي الصيني وتنظيري بأنه نموذج يقوم على الديمقراطية التنموية التوافقية، فقد بدأت كلمتي بعتاب دبلوماسي رقيق تعليقاً على جولة الرئيس الصيني الإفريقية قائلاً، إنني كمواطن مصري متخصّص في الشئون الصينية، كنت أتطلع وأعتقد أن كثيرين من الشعب المصري يشاركونني ذلك الإحساس، بأن يزور الرئيس الصيني ِشي جين بينج مصر في جولته الإفريقية، استناداً إلى أمرين مهمين: أولهما إن مصر كانت أول دولة عربية وأفريقية أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين في مايو/آيار 1955، وأن القيادات الصينية المتعاقبة ووزراء الخارجية حرصوا على زيارة مصر في أول جولة خارجية في إفريقيا والعالم العربي؛ وثانياً إن الرئيس المصري محمد مرسي حرص على أن تكون أول بلد يزورها خارج المنطقة العربية الإفريقية هي الصين، تقديراً لأهمية الصين. ونشرت الصحف الصينية ما قلته وأجرت معي عدة أحاديث حوله، وحول مفهوم الحلم الصيني والتطور الصيني ورؤيتي لمستقبل الصين وعلاقاتها العربية والإفريقية.

هذه بعض ملاحظات حول الصين والمنتدى الخامس المتخصصين في الشئون الصينية... لعل فيها بعض الدروس المستفادة.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3877 - الخميس 18 أبريل 2013م الموافق 07 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:18 ص

      سافر ففي الاسفار خمس فوائد .... تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد

      هذا البيت مشهور من كلام الامام علي (ع)

اقرأ ايضاً