برحيل الشَّيخ عبد الهادي الميرزا محسن الفضلي (1935 - 2013) يكون العالم الإسلامي قد فقد أحد ركائز الإصلاح الديني وأبرز المساهمين في تجديد المعرفة الدينية، ليس من خلال الخطابيات والشعارات التي يبرع في ترديدها كثيرون في الاحتفاليات والمؤتمرات التي يفترض أن تكون علمية، بل من خلال تراث علمي خصب تركه الفضلي قبل أن يودّعنا قبل أيام إلى جوار رحمة الله.
كثيراً ما يتردد اسم الفضلي، في الكتب والدراسات المتعلقة بالمعرفة الدينية، أو تلك الكتب التي تتحدث عن تاريخ الإسلام السياسي الشيعي، بوصفه واحداً من أبرز المساهمين في تأسيس الحالة الإسلامية في العراق، والفاعلين فيها، ورغم حداثة سنه يوم التحق بالمجموعة القيادية الأولى في حزب الدعوة الإسلامية حيث لم يكن يتجاوز عمره 25 عاماً، إلا أنه وبسبب تفوقه العلمي ونبوغه وجديته استطاع أن يحظى بمكانةٍ خاصةٍ لدى كبار علماء الحوزة العلمية النجفية.
ثنائيات كثيرة تبدو واضحةً في مسيرة حياة هذه الشخصية الفذة، ثنائية الدور: الفقيه المثقف، وثنائية التكوين العلمي: العالم الذي جمع بين التعليم الجامعي الحديث، وبين التعليم الجوامعي (من الجامع أو المسجد، المكان الذي يأخذ فيه الطالب الحوزوي دروسه)، وثنائية اجتماعية: العراق والسعودية التي أمدته بتجربة إنسانية واجتماعية غاية في الخصب والغنى، فقد وُلد بالبصرة العام 1935 مِن أب أحسائي وأم مِن آل البطاط بصرية المنحدر.
أوراق دفتر عمر هذا الرجل سخية بتفاصيل تاريخية مهمة، فالرجل عاش في وقت كانت النجف تعيش عصرها الذهبي، وقد واكب وساهم مع رجال المؤسسة الدينية المسكونين بالهم الاصلاحي وبكثير من الجرأة والشجاعة والتوثب، في إحداث ثورة فكرية في مدينة بدت شاحبة وبعيدة عن اهتمامات العصر وشئونه.
لقد كان الفضلي سخياً في ذكر مناقبية الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1963) والسيد محمد تقي الحكيم (ت 2002) والسيد محمد باقر الصدر (أعدم 1980) والشيخ محمد أمين زين الدين (ت 1998). ومما يرويه عن تأثره بالشيخ زين الدين، أن الأخير عقد حلقة تدريس لكتابه «الاسلام... ينابيعه مناهجه غاياته»، حضرها معه ثلة من طلبة الحوزة العلمية منهم السيد مهدي الحكيم (أغتيل 1988) والسيد محمد باقر الحكيم (أغتيل 2003) وآخرون اختارهم الشيخ زين الدين بنفسه لتعليمهم نظرياً وتطبيقياً على كتابة المقالة الأدبية، وهو أول درسٍ من نوعه في النجف في مواجهة الأدب الاشتراكي الذي كانت تتلقفه أيدي الشباب.
غادر الفضلي النجف الأشرف العام 1971 بسبب الظرف السياسي الصعب الذي مرّ بالعراق بعد هيمنة النظام البعثي، وتوجّه نحو الكويت ثم منها غادر إلى مدينة جدة، حيث عيّن مدرساً لمادة الأدب العربي في جامعة الملك عبدالعزيز، وبعد سنتين من التدريس ابتعث من قبل الجامعة إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.
ولأنه عاش وحيداً خلال هذه الفترة حيث كانت العائلة ماتزال تعيش في العراق، فقد استغل وقته بجولات ميدانية بسيارته الفولكس في معالم مكة والمدينة يسجّل ويصوّر ما يشاهده، ويكون قبلها قد دوّن ما قرأه عن الأماكن التي يقصدها في كتب التاريخ والفقه والرحلات، ويقول، كما يروي نجله فؤاد، إنه كان يحمل فراشه معه بالسيارة، فينام متى ما جنّ عليه الليل.
في القاهرة، صادف عدداً كبيراً من زملائه ورفاقه النجفيين من الذين كانوا يدرسون في الجامعات، منهم الشيخ أحمد الوائلي (ت 2003) والسيد مصطفى جمال الدين (ت 1996)، وصالح الظالمي والسيد عبدالهادي بن السيد محسن الحكيم والسيد محمد بحر العلوم والسيد طالب الرفاعي، وكانت لهم لقاءات علمية وأدبية.
مدن وأماكن رسمت معالم تجربة الشيخ الفضلي التي حرص أكثر من كتاب على الإمساك بطرف منها، فقد وُلد ونشأ بالبصرة، المدينة المختلطة التي أدركت مبكراً أهمية التعايش والتسامح المذهبي، وقد وهبته النجف أكثر من العلم ومنحته خبرة السِّياسة دون أن تستغرق وعيه وتسد منافذه، ثم أغرته مدينة جدة حين أدركه النضج العلمي واضعاً بذلك حداً لنشاطه السياسي في صفوف الدعوة الذي كان أحد قيادييها، ثم استضافته قاهرة المعز لدراسة الدكتوراه، وتردّد على لندن مستكملاً دوره العلمي عبر دوره الإشرافي في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية.
كما عاش بالقطيف سنواته الأخيرة هادئاً كدأبه وهو في ذروة عطائه وبزوغ نجمه العلمي، واهناً مستسلماً لثقل السنين، مستأنساً بالكتاب والمكتبة التي ظل وفياً لها طيلة 78 عاماً.
بالنسبة للبحرين، يعد الفضلي أكثر من عالم دين اتسمت شخصيته بالشمولية والنشاط العلمي، فهو أستاذ لجيل واسع من كبار علماء البحرين من الذين تتلمذوا على يديه في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف في ذروة عطائها العلمي في النصف الثاني من القرن الماضي، كان منهم أغلب من درس في كلية الفقه وهم كثيرون، منهم الشيخ عيسى أحمد قاسم والسيد عبدالله الغريفي، إذ شارك الفضلي أستاذاً في متوسطة وثانوية منتدى النشر، وأصبح بعد تخرجه في كلية الفقه معيداً فيها، ثم انضم إلى أساتذة الكلية يشارك في دعم مسيرة النهضة العلمية النجفية الحديثة، وشارك في الكثير من الفعاليات الدينية في البحرين محاضراً وضيفاً كبيراً على احتفالياتها ومناسباتها الدينية. ناهيك عن التراث العلمي الكبير الذي تركه في سياق اشتغاله بمنهجة التعليم الديني في الحوزة العلمية والمؤسسات الإسلامية الأكاديمية الحديثة، كالجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن، حيث عمل وتتلمذ – مرةً أخرى - على يديه نفرٌ غير قليل من الطلبة البحرينيين منهم الشيخ سعيد النوري، سيد صادق الوداعي، الشيخ توفيق الحداد، الشيخ ناصر الشويخ، سيد محمد الغريفي والشيخ صادق الكربابادي وآخرون.
وضع الفضلي خمسة وسبعين كتاباً، بعضها صدر في أكثر مِن مجلد. وقد أعطته فترة العمل لمدة سبعة عشر عاماً (1971-1988) الخبرة الأكاديمية الضرورية واللازمة لرجل الدين، والإفادة منها في تثبيت دعائم مشروعه الكبير في منهجة العلوم الدينية في الحوزة.
لقد أخذ مشروع الفضلي الذي وهبه عمره ووقته في تجديد مناهج ومقررات الدرس الحوزوي مراحل ثلاث:
الأولى: إعادة كتابة مقررات الدرس الحوزوي لمواده الدراسية الحالية بلغة ميسرة وأسلوب تربوي جديد، يتناسب ولغة ومتطبات العصر، ومن أمثلتها كتبه «خلاصة المنطق» و»مبادئ أصول الفقه» و»التربية الدينية» و»أصول الحديث» و»مبادئ علم الفقه» بأجزائه الثلاثة.
الثانية: استكمال المقررات الناقصة في الدرس الحوزوي للعلوم القديمة وإدخال مقررات لبعض العلوم الحديثة المهمة التي لها علاقة بالدراسات الإسلامية، وقد كان فيها رائداً، ومن أمثلتها كتبه «تاريخ التشريع الإسلامي» و»أصول البحث» و»أصول علم الرجال» و»أصول تحقيق التراث».
أما المرحلة الثالثة: فهي بحوث استدلالية في الفقه والأصول وفق منهج جديد وضعه وبنى عليه كافة مسائل ونظريات العلم، وهو ما أسماه «المنهجي اللغوي الاجتماعي»، ومؤلفاه في هذا الباب «دروس في أصول فقه الإمامية» و»دروس في فقه الإمامية».
رحم الله الشيخ الفضلي.. الفقيه المثقف والرسالة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3874 - الإثنين 15 أبريل 2013م الموافق 04 جمادى الآخرة 1434هـ
الناس موتى وأهل العلم أحياء
الوفاء الحقيقي لهذا العالم الموسوعي أن نقرأ نتاجه العلمي بنية التعلم الخالص لوجه الله تعالى وان نكتب حول منجزه الابداعي بلغة الدال على الحق ، بلغة جادة خالية من الحشو ، بلغة تعكس استفادتنا وتؤكد وفاءنا من خلال مقاربتنا لخطه المعرفي بوعي ونباهة .
مثقف
وهل يوجد فقيه غير مثقف غذا كنا نتحدث عن فقيه بالمعنى الحقيقي
رحم الله الشيخ الفضلي عدوّ الجهل والتخلّف والعصبيّة...
الفقهاء كأي شريحة تخصصيّة من البشر في أي مجال من المجالات فيهم مستويات متفاوتة بشكل ملحوظ على مختلف الأصعدة (الفكرية / العلمية / الإيمانية...)...وطبيعي أن يكون الفقهاء مستويات وهذا ما لا شك فيه إلاّ أن يكونوا معصومين فهم بمرتبة واحدة وهذا مالا يدّعيه أحد...
بوعلي
إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء
رحمه الله واسكنه فسيح جناته ... الفاتحة
نكأتَ جرحاً غائراً في قلبِ كلَّ غيور...هؤلاء الأفذاذ يعيشون على هامش الإعلام الذي يتصدرهُ الرعاع...
الشيخ الفضلي هو أحد أحبار العلم ومفاخر الإسلام بحق...تاريخٌ حافل...وشخصيّة فذة...وأنموذجٌ رائعٌ للعالِم الرسالي الواعي الذي يتطلّع لهُ كلُّ ذي طموح...ولكنَّ المأساة أن تجد إعلامنا الخاص ـ بالذات القنوات الفضائيّة الشيعية ـ مساهماً رئيسياً في حجب نور هذه الشخصيات العظيمة فلا تجد لنفسها فيه مساحة قِبال ما يُتاح لأنصاف المتعلمين الذين يتم إبرازهم للعالم وكأنهم أفضل الموجود...أسفاً أن يكونَ في التشيّع علماء كالشيخ الفضلي لكنَّ العالم يجهلهم بسبب جهلنا نحن لهم...مقالُك رائع يا أستاذ...
دكتوراة مع مرتبة الشرف
كل تلك المؤلفات وأطلق عليه لقب دكتور وكل هذا العطاء خلال سنوات العمر التي حفلت بالدرس والتدريس... غير ان البعض لم يكتب حتى نقطة في كلمة وقد وقد اسبغت عليه الالقاب ولبس النياشين مستأسدا بلقب دكتور وهو لم ينهي المرحلة الابتدائية فضلا عن استغلال الدين لمصالحه الدنيوية... الف رحمة عليك يا ايها الشيخ الفضلي فلقد فضلت العلم والاخرة في سبيل رفعة الدين وجواز الصراط المستقيم
رحمه الله واحسن اليه
محطات جميلة في حياة الشيخ الفضلي..لكن كان بودي ان يسلط الكاتب الضوء اكثر على جوانب الجسارة عنده كفقيه وكمثقف كما يشير العنوان.
جسارة الريادة
جسارة الريادة في ميدان لم يكن مألوفاً .. شكرا لاهتمامك الجميل
سلمت يا ويام
كل ما قرأت لك عزيري، شعرت بان ورائك خزان معرفة لا ينضب.
سلم يراعك .
اقترح عليك جمع بعض المقالات وتنقيحها، تمهيداً لاصدارها في كتاب، حفظاً لها من الاتدثار.
سلمت
سلمت عزيزي .. هذا من حسن ظنك
مشروع جمع المقالات مؤجل في الوقت الحالي .. لكنه في البال
شكرا لك ولثقتك بي