«العريضة» رواية كتبتها القطرية نورة آل سعد، ونشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر العام 2010. وهي سرد يوثق لأحداث سياسية تاريخية مرت بها قطر، حين تعرضت إلى إضرابات العمال والمظاهرات في الخمسينيات، ودور الفداوية في قمعها، والصراع بشأن إلغاء تجارة الرقيق، ومظاهرات تأييد الوحدة الثلاثية في 1963، وتأسيس نادي الطليعة في 1959 وحصاره بالدبابات واعتقال أعضائه، كما تطرقت للأفكار التي انتشرت وقتها من ماركسية وقومية عروبية حتى بروز الإسلام السياسي، وشيوع حالة التدين في سياق تحولات حياة الأفراد، وتأسس الدولة وتطور مؤسساتها.
تناولت حراك أول «عريضة إصلاح» العام 1963، والحركة التصحيحية في 1972، ومذكرتي العام 1984 و1998 اللتين رفعتا لمجلس الشورى المعين، إضافة إلى عريضة 1991، التي طالبت بتطبيق الدستور، وإنشاء مجلس منتخب، وتحسين أوضاع التعليم والصحة، وإطلاق سراح معتقلي العريضة الأولى، وتوقف أجهزة الأمن والمخابرات عن مضايقتهم.
تحلل الراوية تلك الأحداث بـ: قد يعد ظهور «العريضة» الأولى المكتوبة والمذيلة بالتواقيع، مؤشراً لمستوى التحول الاجتماعي إلى مرحله أكثر تعقيداً للمجتمع، لكنها مرحلة أشد تعثراً لإمكانات تقدمه ونضجه كذلك..، فعائدات النفط كانت مصدراً للعطايا والتعويضات والتسويات، بيد أنها لم تستطع خلق وعي بأهمية الأدوار الاجتماعية وضرورة التنظيم، وعائدات النفط ذاتها هي التي خلقت فئة تجارية عائلية احتكارية شرهة بلا تطلعات ولا أدوار، سيطرت وكبحت منذئذ كل خطوات التقدم والتحديث والإصلاح..علماً بأن حركة أبريل/نيسان 1963 لم يعقبها أية حركة وطنية أخرى حتى يومنا الحاضر، لقد انتهى الحراك بعدها تماماً، وبوسعنا أن نعلن الآن بأن ذلك يعد نتيجة طبيعية لضعف المجتمع والتصاقه بكيان «النظام» اعتماداً وتغذية واستمرارية!
لاشك أن «العريضة» تعبر عن عمق رؤية المؤلفة للواقع السياسي والاجتماعي وصراعاته، ويبدو أن تجربتها الشخصية وقراءاتها المنهجية ساعدتها على جرأة الطرح والوضوح والجدية، التي امتدت إلى نقد النظام السياسي بعلاقاته التسلطية القائمة على الولاءات، وفرض توجهات محددة أفرزت انتشاراً للفساد، وحجراً على حرية التعبير والرأي، وتشكيل المؤسسات السياسية والمدنية الفاعلة، إلى جانب نقدها للمنظومة الاجتماعية والعلاقات البطريركية. ومنه يمكن القول إنها تمثل مدخلاً للتعرف على تأسيس هذا النظام السياسي ومرتكزاته، ومع اتسامها بالأحكام القاطعة سلباً وإيجاباً، إلا أنها أيضاً عبّرت عن تجليات فنية ورؤى حية.
وكأي فعل إبداعي، تناولها بعضهم بالنقد قائلاً: «لا يمكن تصنيف الكتاب بأنه روائي البتة، فالكاتبة نأت كثيراً عن صفة الرواية، رغم أن المحتوى جيد، ويصلح كمادة تاريخية أكثر منها مادة أدبية، إلا أن المنهج المتبع كان مبعثراً جداً، وكأن الأوراق أو المسودة جمعت على عجل دون أن يتم وضعها في تراتيبية تليق بها، والأكيد أن هذا السبب هو الذي جعل الكثير من القراء ينسلون من تكملة الكتاب».
وأشار رأيٌ آخر إلى: «إنها إسهاب وإطناب لغوي وفكري، وفي أحيان كثيرة تشعر أن الكاتبة تستعرض آراءها وأفكارها أو ثقافتها التاريخية والأدبية»، كما خلص آخر: «لا يمكن اعتبارها رواية أكثر من أنه كتاب سياسي نقدي تاريخي.. الأفكار غير مترابطة، فهي تنتقل من موضوع إلى آخر بدون ترابط»، في حين وجدها آخرون: «إنها رصدت موجات التغيير التي مرت بها قطر بعمقها أو ضحالتها، واستطاعت الأخذ بيد القارئ للتعرّف على تحولات المجتمع وتاريخه، وما طرأ عليه من متغيرات».
في هذا الصدد يشير القطري أحمد عبدالملك في مقالة له إلى أنها «بدت رومانسية ثم عكست تحولات الحياة ما بعد ظهور النفط».
عالجت «العريضة» أحداثاً شكلت «تابو» عبر شخصياتها التي تشاركت دور البطولة أبرزها، شخصية عائشة وزوجها المدعاسي، وحبيبها الأول المناضل العمالي صالح، وأختها الأرملة د. منيرة، وحبيبها المتخيل يوسف، ثم هدى ابنة منيرة وزوجها الأجنبي جون إيررين.
حركت المؤلفة الشخصيات بأدوارها وانفعالاتها عبر مراحل التطور التاريخي، من خلال الانتقال من حياة البداوة وقسوة العيش وبساطته، إلى حياة المدينة التي تغيرت معالمها بعد اكتشاف النفط وتزايد عائداته، وانعكاسات ذلك على منظومة القيم والعادات والتقاليد، وتعقد علاقات الأفراد، وبكل ما حملته تلك التحولات من شيوع لثقافة الاستهلاك والترف، وبروز «الأنا والشخصانية»، وربما أدى هذا التداخل إلى أن تنتهي الرواية تقنياً إلى عقد مبعثرة في عناصرها، برغم محاولات مزج وتداخل الواقع السائد بالمتخيل.
تصوير شخصيات الرواية تم بعرض مسارات تفكيرهم وممارساتهم الحياتية اليومية والعملية وعلاقتهم مع بعضهم البعض، لاسيما «يوسف» الحبيب المرتبط بعلاقة يشوبها الالتباس والغموض مع د. منيرة بكل ما تحمله من إزدواجية علاقة الرجل بالمرأة في المجتمعات الحديثة مظهراً، التقليدية مضموناً في علاقاتها، وما تبرزه من تفكك أسري «علاقة منيرة بأولادها، وما آلت إليه أوضاعهم المتنافرة، أحدهم سلفي، والآخر ليبرالي ورجل أعمال»، فضلاً عن شخصية ابنتها الباحثة والمتمردة هدى، التي تزوجت الأجنبي ذا الميول الاستشراقية.
تميز السرد بالتشويق في جوانب عديدة، وإن شابه الاضطراب أحياناً فأخل بالبناء بسبب الإغراق في مناقشة الأفكار والآراء والأحكام والإقحام والاسترسال في وصف الحالة المظهرية لهذه الشخصيات بما تمازجت به اهتماماتهم المتضخمة وغير المنطقية أحياناً بما تشتمل عليه من عناصر السياسة والدراسة الأكاديمية وممارسة الكتابة والبحث والتطلع وحب البروز والسعي للمناصب وممارسة هوايات الرسم والتصوير وغيرها، وهو ما يثير التساؤل عن أسباب هذه الحالة الإشكالية في مجتمعاتنا المحلية الزاخرة بهذه المظاهر؟
يذهب عديد من النقاد إلى أن بعض حالات السرد هي أقرب إلى البوح الذاتي (السيرة الذاتية)، التي تتخفى وراء الشخصيات بسبب توجسها من سلطة المجتمع ورقابته وقيود (ممنوعاته ومحرماته)، ولعلنا نلحظ ذلك في حديث منيرة: «لا يمكن للمرء أن يصرح بأفكاره في مجتمع أحادي كهذا المجتمع لا يحبذ الأفكار المغايرة، ولا يعترف بالتعددية ولا الاختلاف، بل يدينهما ويقدس التماثل والتجانس ضمن السائد»، كما نستشعر حالة المراوغة القلقة في موقع آخر «عرفت منيرة الحب اليائس مراراً وبصوره المختلفة، الحب الواهم، والحب عن بعد، وحتى الحب من طرف واحد!»، ولعلنا لا نبالغ إن استشعرنا هذا التخفي وتجنب الحديث المباشر عن الجسد والجنس والعاطفة بين المراهقة «عائشة وصالح»، وتبادلهما أول قبلة والتصاق جسدي بينهما، إضافة إلى علاقة الحب الملتبسة بين د. منيرة ويوسف، التي حاولت المؤلفة وضعنا إزاء ما يشبه «حالة الحب العذري» بينهما والتبرير لها، ومع ذلك فهي تحاول كسر «التابو» في حديث منيرة عن حبيبها يوسف حين تقارن بين وضعها ووضع زوجته: «لماذا تحصل زوجة يوسف دونها على الاعتراف؟ وتنال تكريساً لوجودها حتى في حال غيابها، من خلال تقدير الآخرين وتزكيتهم.. وفي حال حضورهما معاً مناسبة عامة يتعمد يوسف إنكارها ولا يكاد يلقي التحية.. أحست منيرة بأنها زوجته الحقيقية؛ الزوجة الجديرة به.. كان يوسف في ذاكرتها أجمل مما كان في وقائع حبها الفعلي».
تداخلت سلوكيات شخصيات الرواية وتمازجت، وتدرجت بأنماط تفكيرها ومواقفها واتجاهاتها في الحدث الروائي مكانياً وزمانياً، وغالباً ما لمسنا ذلك في تحول الشخصية ذاتها من حالة إلى أخرى بما تحمله من انفعالات وأفكار وسلوكيات بدت متناقضة أحياناً مثل تحول منيرة من الماركسية، ثم تأسلمها وتنقبها، ثم خلعها الحجاب.
بعض التحولات لم تكن منطقية ومقحمة في نواحي زمنية سريعة أو بطئيه في إيقاعها مع أحداث الرواية، وربما ساهمت بإضعاف الحدث نفسه أحياناً، وهو ما يؤشر عليه تحول «سلوى الصحافية المندفعة بمبادئها إلى سيدة أعمال في اتجاهات الزوج وترسانة مصالحه»، بالطبع التحولات حدثت في سياق الحدث وعبوره من زمن إلى آخر، لكن العبور هذا شابه الارتباك والقطع وانعدام التسلسل في منعطفات عديدة.
أما الحوار الدائر بما حمله من توصيف وشرح تفصيلي دقيق لبعض الشخصيات، كيوسف وهدى وجون، يشعرك أنه تم لتأكيد حضور الشخصية وأهميتها وربما تبرير اتجاهاتها الفكرية وسلوكياتها بما يتماشى ودورها في المشهد لكونها تمثل مرتكزاً من مرتكزات الرواية، وهو ما يكشفه الإغراق الوصفي للحالة السيكولوجية لهذه الشخصيات وتصرفاتها، إذ لا نشعر بتأثيرها في الواقع أو الحدث بقدر ما نتلمس وجودها المجرد «الوصفي» في الزمن والمكان الذي تتحرك فيه، كان الحوار قليل،اً ولو تم الإكثار منه لساعد على كسر رتابة السرد والشرح وأفسح للقارئ استراحة لالتقاط الأنفاس.
برزت محاولات لاستخدام «تقنية» إرباك القارئ في تداخل الأمكنة والأزمنة بين «بيروت وقطر وأميركا»، وغالباً ما تم ذلك دون تمهيد ومقدمات تهيء القارئ لهذه النقلات، نتبين ذلك حتى من خلال علاقة الشخصيات بعضها بالبعض وتحولاتها، إذ لم نعرف أن عائشة أخت منيرة إلا في منتصف الرواية، وهي التي من وقتها انتهى دورها تماماً -أي عائشة- برغم تردد اسم زوجها، أما الطريقة التي انتهت بها شخصية «جون، بموته بضربة شمس» فكانت ميكانيكية لا تتناسب ورتم السرد الذي دار حول شخصيته.
الخلاصة، «العريضة» بحق فعل إبداعي جاد يجمع بين متعة القراءة وغنى التوثيق، كما يعبر عن نضج يميزه عن نتاجات الأدب الأنثوي «الموضة».
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 3866 - الأحد 07 أبريل 2013م الموافق 26 جمادى الأولى 1434هـ