لو كان لديك ابنة، وجاء شاب جميل لخطبتها، فأخبرك أبوك بأن هذا الشاب يشرب الخمر، وأخبرك صديقك الذي يعمل في الشرطة بأن هذا الشاب جيء به إلى المركز وسجن في قضية دعارة، وأخبرك جارك بأن هذا الشاب سرق سيارته، وأخبرك صاحب البرادة التي بقرب منزلك بأن هذا الشاب كذاب وسرق عدة مرات...
فما هو موقفك؟ هل ستقبل بأن تزوج ابنتك لهذا الشاب؟ من الطبيعي أن ترفض أن تزوج ابنتك لشخص يشرب الخمر ويمارس الدعارة، وسارق وكذاب.
بعد أسبوع، قال لك أبوك: «يا بني كنا نريد أن نختبرك، فأنا وصديقك وجارك وصاحب الدكان، كنا متفقين على اعطائك معلومات خاطئة تجاه الشاب، لنختبر ردة فعلك، لكن في الحقيقة هذا الشاب في غاية الورع والتقوى والصدق والأمانة، واسأل أي شخص عنه فلن تجد إلا ما هو خير تجاهه، وأنا أطلب منك الموافقة على تزويجه».
وذهبت إلى 100 شخص في القرية، وكلهم قالوا لك، إن هذا الشاب في غاية الورع والتقوى والصدق والإخلاص والأمانة، فهل ستغير رأيك وتوافق على تزويجه ابنتك؟
لماذا في المرة الأولى رفضت، وفي المرة الثانية وافقت؟ كل هذا بسبب المعلومات التي أدخلت في عقلك تجاهه، فإذا زودت بمعلومات خاطئة فسيكون سلوكك تجاهه خاطئا، وان زودت بمعلومات صحيحة فسيكون سلوكك صحيحا تجاهه.
مثال آخر، لو كان هناك شاب جميل لا تعرفه على وشك الغرق في بركة، وأنت سباح ماهر كنت بالقرب منه، ماذا ستفعل؟ هل ستنقذه؟ نعم ستنقذه، لأن ضميرك يدفعك لذلك، وستشعر بالسعادة.
بعد يوم جاءك اتصال، وقيل لك ان الشاب الذي أنقذته، كسر رأس أمه بلوح خشبي وقتل أخاه وأخته وهتك عرض زوجته صباح اليوم، ما هو شعورك؟ هل ستندم على إنقاذك له، وستقول لو كنت أعرف لتركته يموت غرقاً؟
لماذا في البداية كنت سعيداً بإنقاذه وتمنيت له الحياة؟ وبعد ساعة ندمت، وأصبحت حزيناً بإنقاذه وتمنيت لو تركته يموت؟
السبب، في البداية، كنت لا تعرفه، وبالتالي فإن ضميرك الوجداني كان صافيا مثلما خلقه الله طاهراً نقياً، يجعلك تحب الخير لكل إنسان، ولكن المعلومات التي دخلت عقلك بعد يوم حوّلها العقل إلى برنامج يعطل ويحجب الضمير الوجداني، عبر إيجاد مبررات لتتركه يموت غرقاً.
فالإنسان لا يستطيع النوم من تأنيب الضمير إلا إذا قام العقل بتعطيله بإيجاد مبررات، فلا يمكن للإنسان أن يظلم إنسانا إلا إذا عطل ضميره بإيجاد مبررات حتى لو كانت وهمية من وهم التخريف. مثلاً لو كنت مديرا وطلب منك تسريح عمال وموظفين بدون سبب، فإن ضميرك يمنعك من قطع أرزاقهم، ولا تستطيع فعل ذلك إلا إذا أوجدت مبررات حتى لو كانت وهمية خرافية. وهذه المبررات تعتمد على تقنية التشويه، أي تشوه صورة العمال وتنسب لهم كل ما هو سلبي حتى لو لم يكن فيهم.
والعقل له العديد من الوظائف، منها صنع برامج، أي انه يأخذ المعلومات ويحولها إلى برامج، مثلاً أن تاجرا قدم لك مساعدة لإكمال الدراسة الجامعية، وساعدك على الزواج، وساعدك في بناء شقة، كل هذه المساعدات بمثابة معلومات يأخذها العقل ويحولها إلى برامج تجعلك تسلم وترحب وتحترم هذا التاجر كلما رأيته. بالمقابل لو أن شخصا قام بمغازلة ابنة الجيران، ستكون هذه بمثابة معلومة يأخذها العقل ويحولها إلى برنامج سلبي تجعلك تحقر وتبصق في وجه هذا الشخص كلما رأيته.
فالعقل يصنع برامج إيجابية وسلبية توجه السلوك البشري بحسب المعلومات التي يتلقاها، منها ما يخدم الضمير الوجداني، ومنها ما يعطل الضمير الوجداني.
وهنا تكمن أهمية وخطورة المعرفة في توجيه السلوك البشري، ولهذا هناك من يخاف من المعرفة، ويعتبرها جرماً، فيضيّقون على حرية التعبير والرأي، خوفاً من أن هذه الحرية قد تؤدي إلى ضخ معلومات ومعرفة في العقول بما تصنع من برامج تهدد مصالحهم.
وفي السياسة، من يرى أن مصلحته في الاختلاف والفتنة؛ يقوم بتوجيه خطابات إعلامية تحتوي على معلومات تهدف للتأثير على عقل الطرف الأول لتشكيل برنامج سلبي عن الطرف الثاني، بما يعطل ضميره الوجداني، ويوجد مبررات للعدوان تجاهه، مثلاً لو قيل ان الطرف الثاني تعرض لحادث مرور وهو في المستشفى، فإن الطرف الأول سيقول «إن شاء الله يموت ونفتك منه».
ولهذا في الدول التي تؤمن بحقوق الإنسان، يمنع نشر صور متهمين أو أسمائهم قبل إدانتهم من قبل القضاء، لأن نشرها قد يؤثر على سير العدالة، ويحدث برمجة سلبية في العقول تجاه المتهمين (تحدث أحكام مسبقة) فينظر لهم على أنهم مجرمون وقد يكونون أبرياء، فيحكم عليهم بأحكام ظالمة بحقهم. والبرمجة السلبية لإحداث الفتنة والاختلاف، ما هي إلا مصنع للرعب تغذي الناس بالكراهية، وهو ما يعني عملياً انحراف الطاقات وتبديدها نحو التخلف والضعف وعدم الاستقرار، لأن الإنسان هنا يبرر الظلم الذي يقع على أخيه الإنسان، والتاريخ أثبت أن المجتمعات والدول لا تدوم مع الظلم.
أما البرمجة الإيجابية فتعزز الضمير الوجداني، وتجعل الإنسان يتمنى الخير لأخيه الإنسان، وهو ما يعني عملياً توجيه الطاقات نحو التعاون والبناء والازدهار وتفجير الإبداعات والمواهب في إسعاد المجتمع.
والإنسان بطبيعته يتمنى الخير لأخيه الإنسان، ولكن برمجة الايديولوجيات والمعلومات السلبية أحدثت خللا في هذه الطبيعة، لتصل في بعض الأمور لأن تجعل الإنسان ذئبا تجاه أخيه الإنسان.
وهناك من يحاول أن يدخل معلومات في عقول فئات معينة، بما يؤثر عليها لخلق برامج سلبية تحجب الضمير الوجداني لديها، ويبرر لها ظلم فئات أخرى، وهذه السياسة بمثابة لعب بالنار، سيمتد حريقها لتطال من يشعلها. فغبار الصراع السياسي يحجب الرؤية، وما ان تنجلي الغبرة، سيجد الجميع أن البلاد تعيش خارج العصر، والسفينة لم تصل إلى بر آمن، وعندما ينضب النفط سنكون دولة فقر ومجاعة مثل دول افريقيا، فلا توجد تنمية حقيقية للإنسان تغنيه عن العيش دون النفط.
إقرأ أيضا لـ "عباس المغني"العدد 3865 - السبت 06 أبريل 2013م الموافق 25 جمادى الأولى 1434هـ
عائد
جدا جميل المقال اتمنى لك التوفيق
مقال رائع
جميل جداً الكاتب وما كتب وفقك الله
عال جدا
مقال رائع يبسط ترسبات الأمور فى المخ البشرى. أتمنى أن يقرأه المتعصبون ليعلموا ما فى عقولهم ليس كل شيء.