لا جدال في أن الديمقراطية هي أفضل ما أنتجه العقل البشري من نظم سياسية وخصوصاً إذا ما قورنت ببدائل لنظم سياسية شمولية. إلا أن الوصول إلى مرحلة الديمقراطية الكاملة لابد أولاً أن تتوفر له متطلباته.
في بلادنا اعتقدنا أن البرلمان، كأداةٍ ديمقراطية رئيسية، هو الحل، فإذا به يتحوّل إلى أداة تأزيم ليصرخ البعض فيه بأعلى صوته (بسنا صلاحيات)! بينما اعتبر آخر قانوناً يجرّم التمييز على أنه خطيئة وجب العقاب عليها. فلماذا هذا العيب فينا يا ترى؟
في هذا المقال، الذي هو استكمال لمقال سابق، نتناول أدناه بعض المعوقات الجديرة بالتأمل في رحلتنا الطويلة للبحث عن نظام يوائم طبيعة تكويننا ويحقق رغبتنا في الاستقرار والأمن والتنمية.
معوقات تاريخية
لم يعرف تاريخنا العربي بعد الخلافة الراشدة تجربة ديمقراطية بثوبها المعاصر. عرفنا دكتاتوريات حميدة في زمن كان العالم يغطّ فيه في ظلام دامس فبنينا بيت الحكمة في بغداد ودار الحكمة في القاهرة. في تلك الحقبة من التاريخ أيضاً كنا نبني الأعمدة على المعارضين وهم أحياء. ثم جاءت فترة الانحدار في وقت بدأ العالم يصحو فيه من حولنا فتمزقنا وعدنا إلى القهقرة مراحل سبقت جاهليتنا الأولى حتى بلغنا الآن مرحلة فتاوى جهاد التناكح ورضاعة الكبير، وتقطيع الرؤوس وتفجير المساجد، لتختلط فيها دماء المسلمين ببقايا من قرآنهم المحترق. كل ذلك باسم الرب وهو منها بريء.
لقد ترك لنا تاريخنا إرثاً أصبح الكثير منه جزءاً من ثقافة وسلوكيات كثيرين منا، وملازماً لطبيعة العلاقات التي تحكم مجتمعاتنا. وهذا الإرث هو ما يطلق عليه البعض بالعادات والتقاليد التاريخية التي أرّخ لها فقهاء وفلاسفة حتى أصبحت جزءاً من معتقدات لا يمكن تجاوزها بسهولة. وقد أثبتت الوقائع القريبة منا والبعيدة، عمق هذا الإرث التاريخي حين يلجأ البعض حتى من غلاة الليبرالية ودعاة الديمقراطية، إلى حضن القبيلة أو الطائفة في وقت الشدة باعتباره الملاذ الأخير.
معوقات اقتصادية وفكرية
قامت الديمقراطية الغربية على مبدأ الحرية الفردية والاقتصادية، وعلى مبدأ فصل الدين عن الدولة في مجتمع مدني، اعتبر حرية الاختيار أساساً للحرية الفردية. فقد اقترنت الديمقراطية بالعلمانية وأصبح القانون الوضعي هو المنظم للعلاقات بين الأفراد في جوانب متعددة من الحياة كالزواج والطلاق والإرث وغيرها من القوانين الخاضعة للتغيير لتتلاءم مع متطلبات الزمان والمكان. وعندما اختارت شعوب إسلامية مثل تركيا نظاماً مغايراً للنظام الوراثي العثماني اضطرت للتغاضي عن بعض من موروثها التاريخي والعقائدي لملاءمة توجهاتها الديمقراطية الحديثة، فحافظ حزبها الإسلامي الحاكم على الكثير من المنظومة الأتاتوركية. وهكذا يصبح الحديث عن الديمقراطية من دون استعداد المجتمع للتكيف مع متطلباتها تبسيطاً لتحديات تكون له عواقب وخيمة.
أما الحرية الاقتصادية فهي غير مقيدة، بل أضحت بعد انحسار حقبة الإقطاع متغيرة لا تملك فيها سلطة حاكمة الثروات الطبيعية ووسائل الإنتاج. وبعد انجلاء غبار الحرب العالمية الثانية تقاسمت الدول المنتصرة النفوذ والثروة في مناطق العالم، ومن بينها منطقة الشرق الأوسط التي منحها الله ثروة الطاقة التي تحتاجها عجلة التنمية في الدول المهيمنة. وهذه الطاقة وفّرت فرصة ذهبية لنا لكي نصبح شركاء فاعلين في إدارة الاقتصاد العالمي، فإذا بهذه الثروة تسخر لتفاقم بؤس الأمة وتعيدها إلى حقبةٍ يتم فيها وأد الأبناء والبنات معاً. إن تداخل هذه المعوقات التاريخية مع معوقات اقتصادية ذات أبعاد خارجية لابد من استحضارها عند التطرق لأي توجه نحو ديمقراطية حقيقية في منطقتنا.
على هذه الخلفية، فإن الاعتقاد بإمكانية التحول الديمقراطي في بلادنا بصورة شبيهة لمثيلاتها في الدول الغربية من دون تهيئة وتدرج، هو اعتقاد تجاوزته الحقيقة لأسباب عدة نوجز منها ما يلي:
- إن المجتمع البحريني كغيره من المجتمعات الإسلامية محكوم بقوانين وضعية وأخرى غير وضعية ثابتة لا تجيز لأفراده هامشاً واسعاً من حرية الاختيار على غرار ما هو سائد في المجتمعات الديمقراطية الغربية. ففصل الدين عن الدولة أمر غير وارد في المجتمعات الإسلامية. من جهة أخرى، فإن التسامح مع الرأي الآخر في المجتمعات الديمقراطية الغربية مرتبط بحرية الفكر والاعتقاد، حتى وإن لامس مسلمات عقائدية لديها. وهذه المساحة من الحرية والتسامح تعتبر من الأسس الرئيسية للديمقراطية التي يدعو لها البعض في بلادنا. وكلنا يعلم مدى حاجتنا لترميم سلوكيات التسامح في أبسط نواحي حياتنا.
- وعلى الجانب السياسي فإن وضعنا الداخلي مرتبط بتوافقات محلية غير متوافرة في الوقت الحاضر. كما أنه مرهون بارتباطات خارجية ليس بالإمكان تجاوزها سواء على مستوى المحيط أو ما هو أبعد منه. من هنا يبقى الحديث عن ديمقراطية غربية خارج هذه الحسابات بمثابة عبث سياسي يقودنا إلى طريق مسدود ومجهول.
- وعلى الجانب الاقتصادي، لا يشك أحد في حاجتنا الماسة لإصلاح الخلل الناتج عن سوء توزيع الثروة وفق معادلة مرضية لجميع الأطراف. إلا أن معالجة مثل هذا الخلل لن يتأتى من دون تخطي الحاجز السياسي الذي سيبقى يراوح مكانه بسبب عمق الفجوة بين الأطراف السياسية. ومن جانب آخر، فإن الاقتصاد البحريني لم تتم هيكلته وفقاً لمتطلبات الديمقراطية الرأسمالية الغربية. فهو اقتصاد يعتمد على دعم الجوار وخليط بين الإقطاع واشتراكية الدولة الرعوية من حيث ملكية الدولة أو مؤسسة الحكم للثروة الطبيعية. في وضع كهذا تصبح الحرية الفردية حتى في جانبها الاقتصادي مقيّدةً بتقاليد وأعراف محلية. كما يبقى الخيار الديمقراطي مرهوناً برضا قوى اقتصادية داعمة. وهكذا تصبح الدعوة للتحول الديمقراطي بمفهومه الغربي بمثابة القفز من نقيض إلى آخر، ومن دون تهيئة متأنية.
ما هو الحل إذن لانتشال بلادنا من حالة عنق الزجاجة التي ساهمنا جميعاً في صنعها؟ إن الحلول المتوافرة كثيرة بشرط توفر الإرادة السليمة والمسئولة، ونورد منها ما يلي:
- الإيمان بأن التحول الديمقراطي هو عملية تدريجية تتراكم فيها مقومات نجاحها، وإن النظام الشمولي ليس هو البديل الأصلح. كما أن حشر أنفسنا في الخيار بين نظامين متناقضين لا يساهم في معالجة مشاكلنا.
- أن البحرين في حاجة ماسة لبديل يقتبس من الديمقراطية الغربية ما يلائم طبيعة تكويننا، ويعزّز المساءلة والمحاسبة وفق أطر دستورية تراعي المؤثرات الداخلية والخارجية.
- أن المشاركة السياسية المتكافئة لجميع الأطراف أساس لاستقرار المجتمع.
- تفعيل مبادئ العدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروة وحرية الرأي وسيادة القانون التي نص عليها الدستور وبأدوات يلمسها المواطن على أرض الواقع. وقد تجد الأطراف المعنية في مبادرة ولي العهد ضالتها.
إننا في حاجةٍ ماسةٍ لأن تتقدم جميع الأطراف الفاعلة وتلك التي تملك القرار السياسي إلى منتصف الطريق، والتوافق على تمهيد المسرح لتلعب على أرضيته جميع الأطراف بثقة تبدد الهواجس المصطنعة وتؤسس لنظام يلائم طبيعة تكويننا ولا يتخلف عن ركب التطورات العالمية. بهذا نصنع مرحلة مضيئة في تاريخ وطننا الحبيب ونشارك في درء الأخطار المحدقة به ونبني مشروعاً وطنياً يحقق لبلادنا الأمن والازدهار.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 3862 - الأربعاء 03 أبريل 2013م الموافق 22 جمادى الأولى 1434هـ
جميل
كلام يحتاج الى من يقرأه بتمعن من جميع الاطراف, شكراً يا استاذ علىالتحليل القيم.