العدد 3850 - الجمعة 22 مارس 2013م الموافق 10 جمادى الأولى 1434هـ

معضلة أستاذ حقوق الإنسان (1)

محمد عباس علي comments [at] alwasatnews.com

عضو سابق في مجلس بلدي المحرق

المادة التالية هي عبارة عن سيناريو للمحاضرة الأولى لأستاذ جامعي جديد أوكلت له مهمة تدريس مادة تطرح لأول مرة تحت مسمى «حقوق الإنسان».

ومن واقع خبرته الكبيرة في مجال تدريس الطلبة الجامعيين، قرر أستاذ مادة حقوق الإنسان أن يجري حواراً مفتوحاً في محاضرته الأولى حتى يتمكن من معرفة مستويات طلبته، ومدى استعدادهم وتقبلهم لهذه المادة الجديدة والمهمة والتي تطرح لأول مرةٍ في هذه الجامعة.

بعد أن عرّف بنفسه، قال للطلبة إنه سيقص عليهم قصة قصيرة على لسان الحيوان تحمل عنوان: «قصة الكلب والذئب». ومن بعد ذلك سيفتح النقاش حول مضمون القصة. وأوضح لهم أن هذا النوع من القصص على لسان الحيوان Fable هو أسلوب أدبي متبع في العديد من ثقافات الشعوب المختلفة، ويستخدم لغرض توصيل مفهوم معين، قد يتعذر توصيله بصورة مباشرة، لكنه إذا جرى على لسان الحيوان، فقد يكون مستساغاً، فيوصل رسالة غير مباشرة. وفي ثقافتنا العربية اشتهر الأديب عبدالله ابن المقفع بهذا النوع من الأدب، ومن أشهر كتبه في هذا المجال «كليلة ودمنة».

وقد أدرك أستاذ مادة حقوق الإنسان ومن خلال خبرته الكبيرة أن طلبته الجدد من الجنسين، غير معتادين على مثل هذا الأسلوب من التدريس. فقد ارتسمت على وجوههم علامات الاستغراب، بل واستهجان لهذا الأسلوب من التدريس. وعلى رغم ذلك، فقد قرر أن يسرد القصة، على النحو الآتي:

«في يوم من الأيام التقى كلب بذئب ضعيف البنية يبدو عليه الهزال والتعب، ما أثار شفقة الكلب عليه. فبادر الكلب فسأله عن سبب ضعفه، فأجابه الذئب: أنا لم آكل لمدة طويلة لأنكم يا معشر الكلاب تقومون بحراسة الأغنام بشكل جيد، مما لا يتيح لي فرصة اصطياد إحداها منذ فترة من الزمن، وهذا سبب ضعفي وهزالي. وعليه طلب الكلب من الذئب أن يلتحق به، حيث أن سيده شخص طيب ويوفر له الطعام الكافي، وبهذا سيتمكن من الشبع والحفاظ على حياته المهددة بالموت.

وافق الذئب على الالتحاق بالكلب، لكنه أثناء سيرهما لاحظ الذئب آثاراً حول رقبة الكلب، فسأله عنها، فأجابه الكلب: لا تكترث لهذا، فهي آثار القيد الذي يقيّدني به صاحبي. يقيدك صاحبك؟ صاح الذئب مستفسراً! هل تعني أنني سأقيّد إذا أتيت معك؟ فأجابه الكلب: نعم، ولكن في المساء فقط. وفور سماع الذئب هذا ترك الكلب وأسرع مبتعداً عنه، ما أثار استغراب الكلب، فأخذ يناديه: لماذا لا تأتي معي فتأكل، فأنت بحاجة ماسة إلى الأكل للحفاظ على حياتك! فأجابه الذئب: لا يمكنني التفريط في حريتي، فأنا أفضل الموت على أن تسلب حريتي مني، ولو لفترة قصيرة!»

سؤالي لكم: من هو المصيب في هذه القصة؟ الكلب الذي قبِل أن يُقيّد في سبيل الحصول على الأكل والمأوى، أم الذئب الذي رفض تقييد حريته مقابل الحصول على الطعام، على رغم حاجته الماسة إليه، وآثر الحرية؟ أريد الإجابات مع التبريرات المقنعة.

توقع الأستاذ أن يبادر طلبته بالإجابات فوراً، وأن يحتدم النقاش بينهم، بين مؤيد لموقف الكلب ومؤيد لقرار الذئب! لكن لدهشته أخذ الطلبة النظر لبعضهم بعضاً، ما أثار استغرابه، وأخذ يفكر، هل الطلبة لم يستوعبوا هذه القصة؟ أم أن مغزاها غير واضح لديهم؟ أم أن هناك شيئاً آخر منعهم من التفاعل معها!

وبقي برهة من الوقت، والطلبة لم يبادروا لإبداء آرائهم. وأخيراً رفع أحدهم يده، فاستبشر الأستاذ خيراً، وأعطاه الفرصة للتحدّث، فقال الطالب:

«يا أستاذ، نريد أولاً معرفة رأيك وموقفك. فهل ترى أن الكلب في هذه القصة هو الصائب أم الذئب؟» فكان هذا السؤال محبطاً له، لكنه أجاب وهو متوتر بعض الشيء: «أنا أريد الجواب منكم! يجب أن تعلموا، أنه ليس هناك رأي واحد صائب في هذه القصة، فالأمر كله يعتمد في المقام الأول على مدى دعم خياركم بالمنطق والحجج المقنعة!»

وبحكم خبرته الطويلة في مجال التدريس، وتوقعه المسبق، بأن الطلبة في معظم الجامعات العربية قد تعوّدوا على أسلوب المحاضرات التي يلقيها الأساتذة، وأنهم لا يميلون إلى النقاش كثيراً، ولسبب ضيق الوقت، ارتأى ألا يضغط عليهم وخصوصاً أنها المرة الأولى التي يلتقي بهم. وعليه قرر أن يعطيهم بريده الألكتروني، وطلب منهم أن يوافوه بآرائهم حول القصة وبكل حرية، بشرط أن تكون مدعمةً بالأمثلة والحجج والمنطق، على أن يحتسب إجاباتهم كواجب منزلي، يرسلونه في مساء اليوم نفسه، وباستخدام بريدهم الالكتروني المعطى لهم من الجامعة مع ذكر الاسم والرقم الجامعي.

وفي وقت متأخر من ذلك المساء، فتح الأستاذ بريده الألكتروني، ولدهشته لم يجد رسالةً واحدةً، ما أثار استغرابه وغضبه من هؤلاء الطلبة الذين لا يقدرون الوقت ولا يستجيبون لأوامر أستاذهم. وأخذ يفكّر مليّاً في الأمر عن أسباب عدم تجاوبهم معه، هل هو الخجل أم أسباب أخرى. وبينما هو غارقٌ في تفكيره، إذ برسالة تصله على بريده الألكتروني، لكنها من شخص غريب، لأنها لم ترسل من البريد الخاص بالجامعة. لكنه قرّر أن يفتحها، وإذا بنصها يقول: «اسمح لي يادكتور، أنا أحد طلبتك في مقرر حقوق الإنسان. فقد استمتعت كثيراً بمحاضرتك لهذا اليوم. دعني أصارحك، نحن لم نألف هذا النوع من المحاضرات، حيث عادةً ما تكون المحاضرات عبارة عن معلومات مكثفة تعطى لنا، وواجبنا حفظ هذه المعلومات واسترجاعها في الامتحانات. كذلك فأنني لم أستطع الكتابة لك من خلال البريد الألكتروني المعطى لي من الجامعة، وذلك لأنني لا أرغب في أن تتعرف على شخصيتي، فقد أقول كلاماً لا يتفق مع رأيك أو رأي المسئولين بالجامعة، أو قد يُؤخذ عليّ من قبل الطلبة الآخرين، وخصوصاً أننا ندرس مادة تخص حقوق الإنسان. فسبب إحجام الطلبة عن المشاركة، هو خوفهم من طرح آرائهم علانيةً، فقد يؤخذ عليهم ما سيقولونه في المحاضرة، ما قد يضر بمستقبلهم كطلبة. وعليه فإنني أقترح أن تسمح لهم أن يفتحوا لهم حسابات جديدة خاصة بهم، بحيث لا تتعرف على شخصياتهم. وبهذا سيكون هناك تفاعل كبير من قِبل الجميع! والمعذرة على التأخير في كتابة الواجب. أرجو تفهم موقفنا. وشكراً».

وفور الانتهاء من قراءة الرسالة، أدرك سبب إحجام الطلبة عن الكتابة له. فقرّر أن يأخذ بنصيحة هذا الطالب المجهول الهوية، وأن يكتب لجميع الطلبة رسالة قصيرة يخبرهم فيها أن يفتحوا لهم حسابات الكترونية جديدة بحيث لا يهمه معرفة شخصياتهم في هذه الفترة، وطلب منهم أمرين: أن يطرحوا آراءهم حول القصة، وطرح ما يدور بخلدهم من أسئلة حول المقرر. كما أخبرهم بأنه أعطاهم مدة يوم آخر لتسلم رسائلهم الالكترونية بهذا الخصوص.

وفي تلك الليلة لم يستطع أستاذ حقوق الإنسان أن يخلد إلى النوم مبكراً كعادته، على رغم أنه في أشدّ التعب الجسدي، فقد بقي مستيقظاً حتى الفجر، يفكر فيما إذا كان مصيباً في قبوله تدريس مادة حقوق الإنسان في هذه الجامعة، وهل سينجح في تدريسها؟ حيث يشعر بالمسئولية الكبيرة لقبوله تدريس هذه المادة المهمة لقناعته بأنها ستسهم في تشكيل ثقافة وسلوك الطلبة الذين سينشرونها بدورهم في مجتمعهم، وبذلك يكون قد أسدى لهم خدمة عظيمة وأدى واجبه على أتم وجه كأستاذ جامعي. لكنه أخذ يحدّث نفسه، «دعني لا أخادع نفسي، إن البداية لا تبشّر بخير! أعتقد أنني سأواجه معضلةً مع هؤلاء الطلبة». ولكونه إنساناً متفائلاً، فقد استدرك محدّثاً نفسه: «دعني لا أفرط في التشاؤم، فأنتظر ما سيكتبون لي في رسائلهم الالكترونية، فإن غداً لناظره قريب»!

إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"

العدد 3850 - الجمعة 22 مارس 2013م الموافق 10 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 2:18 م

      حقوق الإنسان

      مقال جميل لتطرقه و طرحه قضية و موضوع حقوق الإنسان ...

    • زائر 5 | 7:39 ص

      حقا وأسفا

      مقال رائع شكرا لكم على إثارته أسفا على هذه الجامعة وهذا الجيل الذي جعله الظلم محنطا يؤثر الصمت على حرية التنفس

    • زائر 3 | 3:14 ص

      موضوع شيق

      صباحك حرية مشبعه بنسائم حقوق الانسان . بداية انه مقال جميل وشيق وخاصة انه يتعامل مع الواقع ومع شريحة مهمة فى المجتمع ومع موضوع اصبح عالميا وانعكاساته كبيرة .

    • زائر 4 زائر 3 | 7:02 ص

      الحرية ليس لها ثمن

      الحرية منحها الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته، وبالطبع ياتي في اعلى الهرم الانسان، الذي كرمه الله. فالذي يفرط في حريته نظير المال والاكل فقد اهان نفسه. مقال جميل ويحمل معاني راقيه.

    • زائر 2 | 10:57 م

      وطني البحرين

      من مطالب ائتلاف الفاتح العلوفة والمادة فهم قدموا المال والراتب في الدرجة الأولى لأنهم فقدوا الحس الوطني واهملوا الأجيال فلا يريدون حرية وكرامة ومساواة ولا ديمقراطية ولا غزة نحن سمعنا عن المقولة :همها علفها نقولها للحيوان وللانسان الذي هبط الى تخوم الارض ونتذكر قول القائل:فأبى ان يعيش الا عزيزا =اوتجلى الكفاح وهو صريع وقد قال حكيم:ان الحر حر على جميع احواله ان نابته نائبة او داهمته المصاعب حر وان ضغط عليه واسر وعسر وان سجن لاينكسر ولا يتراجع كيوسف الصديق.ترقى في مراتب الحرية واضحى تحت يده خزائن

اقرأ ايضاً