انتهينا في المقالة السابقة عند النقطة المتعلقة بجوهر النظام السياسي الديمقراطي الذي نتطلع إليه، بحيث تأتي مخرجات الحوار ملبّية لشروط هذا النظام، وقلنا أيضاً إننا نحتاج من الحوار إلى قرارات سياسية وصياغات دستورية واضحة لا تقبل التأويل، وقابلة للالتزام والتنفيذ؛ لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى إعادة صياغة طبيعة وشكل العلاقة بين الدولة والسلطة من جهة، وبين هاتين والشعب والقوى السياسية من جهة أخرى.
هذه قضية مهمة ذات علاقة وثيقة بالديمقراطية وبالدولة المدنية التي يجري الحديث عنها كثيراً، والديمقراطية التي نقصدها هنا هي التي تكون نقيضاً للاستبداد والتفرد، ونقيضاً للقمع ومصادرة الحريات، وليست ممارسات شكلية أو مؤسسات صورية. وبهذه الصفات تكون الديمقراطية أحد أهم التحديات التي تواجه المتحاورين، ويمكن اعتبارها معياراً أساسياً للحكم على مدى جدية المتحاورين وجدوى الحوار، وبالتالي نجاحه في معالجة كل النواقص والثغرات في الوضع السياسي والدستوري الراهن.
هنا استميح القارئ الكريم عذراً بأن نستحضر معاً بعض ما تعلمناه من حقائق علم الاجتماع، وإحدى هذه الحقائق المهمة تنص على إنه لا يمكن تصور وجود «دولة بدون سلطة سياسية»، ولكن ليس معنى هذا أن تقوم السلطة بابتلاع الدولة، وتتسلط عليها أو تصادر حريتها لصالح فئة قليلة متنفذة، تحت أي عنوان، وتحتكر القوة والثروة والأمن، بما يمكنها من بسط هيمنتها على كل مفاصل الدولة والتحكم في القوانين والتشريعات بما يعزز قبضتها ويحمي مصالحها، ثم تقوم بتنفيذ هذه القوانين بوسائلها الخاصة، ووفق قياساتها هي دون غيرها.
إن وجود مثل هذه المشكلة في طبيعة العلاقة بين الدولة والسلطة السياسية التي قد تصل إلى حدّ التماهي بين الاثنين، وغياب أية استقلالية لمؤسسات الدولة، يعني أن هناك خللاً واضطراباً في هذه العلاقة، وأن استمراره مع الزمن بهذه الصور، يعني إفساح المجال لتراكم أسباب الاهتزاز وعوامل الانفجار، التي تبقى لسنوات تعمل تحت الأرض، قبل أن تطفو على السطح مع أول فرصة لها محدثة دويّاً سياسياً واجتماعياً هائلاً.
هذه الحقيقة تضعنا مباشرة أمام ما حصل في 14 فبراير قبل عامين، وتؤكد إن ما حصل من حراك شعبي لم يكن وليد لحظته، أو هكذا حصل بغتةً دون أسباب، إنما جذوره تمتد إلى عقود من الزمن، وكانت كل المعالجات التي تتم ناقصة أو عاجزة عن بلوغ مستوى الخلل القائم.
نحن هنا أمام الحقيقة شاخصة وعارية كما يقال، ودع عنك كل الأوهام والمبالغات أو المخاوف المصطنعة التي درج البعض على تكرارها والاقتتات من ورائها، ودع عنك كل التهم الظالمة التي كيلت إلى هذا الحراك، سواء ما تعلق منها بتهمة الانقلاب أو الطائفية أو العمالة للخارج، فهذه أباطيل وتهم لم يسلم منها أي حراك شعبي، ولم تسلم منها أية انتفاضة أو ثورة في دول الربيع العربي.
وعادةً ما تأتي مثل هذه الاتهامات من قوى وفئات تحرّكها أحلام التفرد ومطامع الهيمنة، بعد أن تكون قد خرجت من رحم الأزمة مقتنصة الفرصة وقافزة إلى الواجهة لتجني المغانم واحتكار المكاسب على حساب أوجاع وآلام الناس، وإقصاء من يفترض إنهم شركاء لهم في الوطن.
إن جذور الأزمة في البحرين تعود بالأساس إلى «مأزق الديمقراطية» الناتج بدوره عن ضعف الدولة ومؤسساتها وقوة السلطة عندما تصبح هي كل شيء، هي الدولة وهي الوطن، وبمجرد أن يتحرك الناس أو يخرجوا للتظلم والشكوى من جور حاق بهم أو تهميش أو تمييز وقع عليهم، وطالبوا بالتغيير والإصلاح والعدالة والكرامة الإنسانية يُجابَهون بالقوة المفرطة وبالتهم المجحفة من قبيل «الخارجين عن القانون» و«المعادين للوطن» و«العملاء» و«الإرهابين»، وغيرها من الأوصاف والتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وهنا تكمن صعوبة مهمة المتحاورين، وهنا يبرز حجم التحدي الذي تحدثنا عنه؛ إذ سيكون عليهم مقاربة أصل العلة لاستئصالها، بمعنى أن يقاربوا هذه المسألة الحسّاسة وأن يضعوا حداً إلى هذا الاختلال الحاصل في العلاقة بين مؤسسات الدولة والسلطة السياسية، وسيكون عليهم تفكيك هذه العلاقة وإعادة تركيبها بشكل عادل ومتوازن عبر صيغ دستورية وحقوقية وقرارات سياسية تضمن تصحيح الخلل المزمن.
عندما نقول مزمن، فإننا نعني إن وجود هذه المشكلة وما خلقته من تداعيات ونتائج سلبية، ليست وليدة الساعة، إنما هي متجذرة في واقعنا السياسي والاجتماعي، وتمتد بداياتها مع بداية تشكل الدولة البحرينية، عبر تعطيل أو إلغاء السياسة والتنكيل بالسياسيين الوطنيين المعارضين، الذين يطالبون بالحريات وباستقلالية مؤسسات الدولة عن السلطة، ثم الإمعان في سياسة تعميق الشروخ والفوارق بين مكونات وأطياف المجتمع، في المقابل أبقت مكونات وثقافات من قبل الدولة (الطائفية - القبلية) وأزاحت الثقافات الوطنية الديمقراطية عن المشهد العام، واتخذت من بعض القوى والعناصر الكارهة للوحدة الوطنية وللوطن «سدنةً» لها وقوة احتياط تحرّكها وقت اللزوم.
وكان هناك تصور بأن مثل هذه السياسات يمكن أن تمنع أي حراك شعبي، أو إنها تحول دون انفجار الوضع السياسي والاجتماعي، حتى جاءت الأحداث لتثبت عدم صحة الركون إلى مثل هذا التصور الخاطئ.
والذي لاشك فيه إن صدور ميثاق العمل الوطني وما خلّفه من أجواء إيجابية على المستويات السياسية والاجتماعية، قد شكّل قطيعةً مع ذلك الإرث السياسي السيء، وكان من الممكن أن تتواصل الاندفاعات الإيجابية له وأن تتطور في اتجاه إغناء الحياة السياسية، ولكن الذي حصل أن القوى المعاندة للإصلاح والديمقراطية لم تكن لتقبل بهذا التغيير، لأنها لم تكن معنيةً به في الأصل، لذلك راحت تعيد حساباتها وترتب أوراقها من أجل تخريب عملية الإصلاح السياسي ووقف عجلته في الحد الأدنى، وهكذا بدأت بتحريك أدواتها على كل المستويات السياسية والإعلامية والثقافية، لتباشر تنفيذ بعض المهمات «السوداء» وعملت على إيقاظ شياطين الفتنة، ومروّجي الأزمات من سباتهم، وأخرجت دعاة التحرير الطائفي من جحورهم، دافعةً بهؤلاء وأولئك إلى الواجهة في ظل أجواء إقليمية مسمومة بالاستقطابات الطائفية والمذهبية، التي راحت تمزق النسيج الاجتماعي الوطني.
وما إن بدأت الأزمة السياسية في البلاد سرعان ما تعمقت لتأخذ منحنيات مأساوية، ويسقط معها الوطن تلك السقطة الكبرى، ويذهب الكل طائعاً برجليه نحو الفخ الذي نصبته قوى التأزيم السياسي والطائفي الرافضة للإصلاح والتغيير الديمقراطي.
من هنا نتحدث عن صعوبة مهمة المتحاورين، بعد أن بلغ الوضع السياسي والاجتماعي هذا المستوى من التعقيد، وصارت الحسابات الطائفية هي سيدة الموقف، وصار معها الوطن في حالة من الضعف والتفكك، في البداية بفعل الاستبداد الذي غيّب الدولة وأضعفها، وفي النهاية بفعل بروز القوى الطائفية والمذهبية التي مزقت الدولة والمجتمع معاً.
ترى هل يستطيع الحوار تصحيح المسار؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عليه، قبل أن نتأكد من قوة حضور الإرادة السياسية المعنية والفاعلة، وحضور المصلحة العليا للوطن في عقلية الأطراف المتحاورة، وفي كل الأحوال علينا الانتظار... وإن غداً لناظره قريب.
إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"العدد 3840 - الثلثاء 12 مارس 2013م الموافق 29 ربيع الثاني 1434هـ
صح الله لسانك
فعلا علينا الانتظار ولكن هذا الانتظار سوف يطول لأن الطائفين والمتمصلحين من ابقاء الوضع على ماهو عليه يصعب عليهم التنازل لانهم لاتهمهم مصلحة الوطن ولودمروه بس هم الباقون.لأن الباقين هم يصفونهم بألخونه ولاندري يوم الذي طالب به الخونه بالمجلس الناقص و من جلس تحت قبته(بس الخونه)
اذا عرفنا الحق والباطل
عرفنا الحوار ناجح ام لا والدليل مبني على باطل فهو باطل اي عمارة ساسها خراب كيف نبني عليها ادوار زيادة والايل لوا رمم سيتشقق ويهوي ومن في الحوار يمثلون من من الشعب ولينقل جزء كبير منهم والباقي القي بهم في البحرواذا افترضنا يمثل الشعب كلة بصفة تامة ضعوا الصناديق وهي تخبركم اما من يقول تضعون معوقات اخرجوا المساجين وبيدهم الحل لوقف كل الحاصل هذا كلام الشارع وليس الترهيب والعصى الامنية