محطات كثيرة، من كفاح الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الصهيوني الغاصب، كما في انتفاضة أطفال الحجارة، وانتفاضة الأقصى الشريف، غمرنا كما غمر العرب جميعاً شعور بأننا نقترب من هدف التحرير. لكن هذا الكفاح، يصطدم في كل مرة، بقراءات واستراتيجيات، غاية في التبسيط، لا تبلغ في قدرتها استيعاب ما هو متحقق على الأرض من مكتسبات نضالية.
والنتيجة أن الملاحم البطولية لنضال الشعب الفلسطيني، سرعان ما يجري العمل من قبل القيادات التقليدية على استثمارها، كأوراق على طاولة التفاوض، لينتهي الأمر، باتفاقية أوسلو، وبمراهنات لا تنتهي على عوامل من خارج دائرة الكفاح، للتوصل إلى تسوية تقود لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
غياب استراتيجية واضحة، تنطلق من وعي قوانين الصراع وطبيعته وأدواته، أسهمت من جهة، في فقدان البوصلة بطبيعة المشروع الصهيوني، كمشروع استيطاني، يشكل قاعدة متقدمة لمشاريع الهيمنة الغربية، وعلى ذلك فإن الصراع مع الصهاينة، هو صراع كينونة ووجود وليس صراعاًً على مناطق متنازع عليها. ومن جهة أخرى، أدت النظرة السلبية للصراع، واللهث المتواصل للوصول إلى تسوية مع العدو إلى عدم الثقة بالشعب الفلسطيني، من قبل القيادات التي تصدت لقيادة مجرى النضال الفلسطيني، إلى محاولة استثمار نتائج هذا الكفاح بشكل سريع، قبل أن يتوقف زخمه.
ولاشك، أن ذلك حدّ من إمكانية صياغة استراتيجية نضالية بعيدة المدى، تقود في محصلتها إلى هزيمة المشروع الصهيوني، وإعادة الاعتبار لتحرير فلسطين... كل فلسطين.
نطرح هذا الأمر، في سياق الحدث الأبرز بالأراضي المحتلة، الذي عبرت عنه الاحتجاجات التي عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة إثر وفاة المناضل الفلسطيني عرفات جرادات جراء التعذيب داخل السجون الإسرائيلية. فقد أثارت هذه الحادثة موجة غضب شديد، دفعت عدداً من القيادات في السلطة الفلسطينية للتهديد بإشعال انتفاضة فلسطينية جديدة في مواجهة الكيان الغاصب. وأعلنت حركة حماس، أنها لن تقف مكتوفة الأيدي، إذا ما واصل جنود الاحتلال ممارساتهم في تعذيب الأسرى الفلسطينيين، وأن لديها خططاً جاهزة، سبق أن نفذتها، لاختطاف عدد من الجنود الإسرائيليين، ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين.
وهدّدت منظمتا الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، باتخاذ إجراءات مماثلة.
في هذا السياق، اتصل وزير الخارجية الأميركي، المعين أخيراً، جون كيري برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية أبومازن، مطالباً كليهما بالعمل على تهدئة الأوضاع بالأراضي المحتلة.
ويبدو أن الأوضاع مرشّحةٌ لانفجار شعبي واسع في الأراضي المحتلة.
ما يهمنا في هذا الحديث، ليست حادثة مصرع الشهيد جرادات، ولكن نتائجها السياسية، وتأثيراتها على مجرى النضال الفلسطيني، من أجل التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
الإرهاب الصهيوني بحق المقاومين الفلسطينيين، أمر مألوف وحالة مستمرة، وهو من صلب المشروع الصهيوني، الذي قام على أساس إنكار وجود الشعب الفلسطيني، واقتلاعه من جذوره، بالنفي والتشريد أو بالقتل. وكان الاحتلال يتصدّى دائماً للمقاومين، إمّا بالاغتيال والتصفية، كما حدث للعشرات من قيادات المقاومة الفلسطينية عبر الخمسة عقود الماضية، أو عن طريق الطرد أو القتل تحت التعذيب داخل المعتقلات والسجون الإسرائيلية.
بل إن الإسرائيليين، لا يترددون عن التبجح بممارساتهم الإرهابية والقمعية بحق الفلسطينيين، وآخرها صورة الجندي الإسرائيلي، التي برزت في مواقع التواصل الاجتماعي وهو يوجّه فوهة بندقيته، صوب رأس طفل، كما أبرزها هو نفسه على حسابه الشخصي، بموقع الفيسبوك. وقد أدت هذه الجريمة ونشرها بشكل مفضوح ووقح، إلى إعلان السلطات الصهيونية، عن نيتها التحقيق مع هذا الجندي، لكن ملف القضية أغلق سريعاً، ومعه تم إغلاق الحساب الشخصي على الفيسبوك للجندي المذكور، وهكذا أغلق ملف القضية. وفي حالات كثيرة مشابهة لا ينال الجناة، من الجنود الصهاينة، بعد ثبوت جرائم التعذيب التي ارتكبوها، أكثر من أربعة عشر يوماً في سجن مرفه، يعودون بعدها إلى مواقع عملهم بالجيش.
اللافت أن القضية الأخيرة، التي نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، وضحيتها طفل فلسطيني، لم تأخذ نصيباً من الغضب العربي، كما حدث سابقاً للطفلة الفلسطينية، التي وجدت هائمةً على ساحل البحر في قطاع غزة، بعد أن استشهد جميع أفراد عائلتها، تحت القصف الهمجي الإسرائيلي في الحرب الأخيرة.
يبرر الصهاينة، أعمال الإرهاب التي تصاعدت أخيراً، من قبل الجنود الإسرائيليين، بحق المدنيين الفلسطينيين بأن معظمها يرتكب من قبل جنود الاحتياط، وليس من قبل الجنود الذين يمتلكون ما يكفي من الخبرة القتالية، وحسن التصرف تجاه الشعب المحتل. لكن ذلك، من وجهة نظر المتابعين لتطور تشكيل وهياكل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، غير دقيق، ولا يعبّر عن حقيقة الأمر. فغالبية الجنود الإسرائيليين، هم من الاحتياط، نتيجة لتركيبة المجتمع الإسرائيلي، ومحدودية عدد السكان.
الخطير فيما يجري بالأراضي المحتلة الآن، هو نجاح الصهاينة، في توجيه بوصلة الكفاح الفلسطيني، من مواصلة النضال، نحو تحقيق هدف التحرير وإقامة الدولة المستقلة، والعمل على وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية التي يجري بناؤها بالأراضي المحتلة. لقد قضمت معظم أراضي الضفة الغربية ومدينة القدس، بحيث لم يتبق من الأراضي التي احتلت في نكسة يونيو/ حزيران العام 1967، من القدس والضفة الغربية، سوى أقل من 47 في المئة، وهي الأراضي التي يفترض إقامة الدولة الفلسطينية المرتقبة فوقها.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3835 - الخميس 07 مارس 2013م الموافق 24 ربيع الثاني 1434هـ