لم يكن الموت أو الاستشهاد أو رفض فكر وسلوكيات وحكم الآخر سلوكاً اعتيادياً، فحتى الشملان رحمه الله، والباكر ورفاقهم مثلوا في مخيلتنا العادية أو الوطنية أي نوع من المعارضة أو الرفض بل كانوا وبكل بساطة (الهيئة). وسمعت الكثير من الأصدقاء يذكرون أسماء لكثير من الناس كانوا من الهيئة، ولم يعرف أحد ما هي الهيئة، سوى أنهم ناس وقفوا ضد الإنجليز، وليس الحكومة.
كانت الوطنية مقترنة بمجموعة مرادفات وتعريفات، لا تكون السياسة ضمنها أو من أولوياتها، بل كان الوطن بما يحمل من رموز ومفردات ومعانٍ ذات لغة سرية متفق عليها بين الناس. لذا كان الحدث الوطني السياسي مناسبة احتفال وتعبير أكثر منها شغب وصراعات، فكنا نذهب أو نشارك في المظاهرات بفرحة احتفالية ومشاركة وجدانية مفرحة.
لدينا في الفريج حكاية قديمة لم أستطع تبيان أسماء أصحابها بالدقة، والحكاية بعيدة عن ذاكرتي الشخصية وحتى العامة لما للناس من رغبة في نسيانها وعدم التذكير أو محاولة معرفتها. وتحكي عن رجل عاش قديماً في أحد بيوت الفريج الكبيرة (والرواية من أحد أبناء هذا البيت كبار السن). ونتيجة لعدم معرفة واشتباه في التعريف فقد تزوج أخته دون أن يعرف أنها أخته، وعاشوا فترة من الوقت معاً، حتى عرف صدفة أنها أخته فأصيب بالجنون وظل باقي حياته يعزف علي ناي (ماصور) في الفريج. وكان الناس لا يطيقون سماع نايه الحزين لأنه، كما يقولون، يجعلهم حزينين ويدفعهم للبكاء. مع الوقت اكتشف من خلال الأصدقاء وأبناء الفريج الكثير مما خرج عن ذاكرتي أو حتى لم يمر عليها. وهذا من قصور الوقت والتواصل والتعارف كصفة لعصر ووقت اليوم. اخترعنا المسرح في الفريج وكانت لدينا مسرحيات مستمرة وقصيرة ومسلية. وهي أعمال مرتجلة وتطرح بأن تكون المسرحية عن صاحب دكان سمبوسة، وهي واحدة من المسرحيات التي قدمناها في حوش ترابي في بيت أحد الأصدقاء. وأحضر من مطبخهم صينية كبيرة وملأناها ببعض الحصي، كسمبوسة. وأخذنا نصرخ منادين على البضاعة بصوت عالٍ «سمبوسة يا سمبوسة، أحلى سمبوسة». وفي المنادي تخرج حوارات بين الممثلين والجمهور أحياناً، فيسأل أحد الحضور «بكم السمبوسة؟» فيرد حامل الصينية «الثنتين بآنه والخمس بآنتين، اليوم عندنا سيل».
إقرأ أيضا لـ "عبدالجليل السعد"العدد 3829 - الجمعة 01 مارس 2013م الموافق 18 ربيع الثاني 1434هـ
الله يرحمك يابوي