بعد وقت قصير على نهاية حرب الخليج، زار وزير خارجية ألمانيا واشنطن وبعد عودته إلى بلاده صرح قائلا: على ضوء المساهمة التي قدمناها في هذه الحرب لم نسمع من الرئيس بوش انتقادات. كان هذا في مارس/آذار 1991 وكان وزير خارجية ألمانيا هانز ديتريش غينشر في ذلك الوقت وكان جورج بوش الأب رئيسا للولايات المتحدة. وقدمت ألمانيا مساهمة مالية بلغت قيمتها 81 مليار مارك تغطية لنفقات حرب لم تشارك فيها. بهذه السهولة كانت عملية توزيع الأدوار تتم بين أطراف التحالف الغربي في ذلك الوقت لكن هذه العملية أصبحت اليوم أكثر تعقيدا. فقد رفضت ألمانيا وفرنسا المشاركة في حرب العراق الثالثة والآن بدأت عملية إعادة رأب الصدع الذي نشأ بسبب الخلاف مع واشنطن وأصبح المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس الفرنسي جاك شيراك على أهبة الاستعداد للحديث إلى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الذي بدوره يحتاج إلى مساعدة دولية لإنقاذ القوة العظمى من مشكلاتها المتزايدة في العراق. فقد زاد عدد القتلى في صفوف القوات الأميركية منذ إعلان الرئيس الأميركي نهاية المعارك في مطلع مايو/أيار الماضي على عدد الجنود الأميركيين الذين سقطوا خلال الحرب. لكن بوش لا يعتزم من جانبه التنازل عن أي من النفوذ لصالح الأمم المتحدة أو أية جهة دولية أخرى وفي الوقت نفسه أصبح مستعدا لمناقشة مستقبل العراق مع زعماء آخرين وسماع نصائحهم. لقد بدأت مرحلة جديدة بشأن مستقبل العراق وستكون مدينة نيويورك، مقر الأمم المتحدة إذ بدأت أعمال الدورة رقم 85 للجمعية العامة، مسرحا للقاءات سياسية مهمة هذا الأسبوع ولأول مرة منذ عام ونصف العام سيتحدث المستشار الألماني وجها لوجه مع الرئيس الأميركي بعد القطيعة التي حصلت بسبب خلافهما على حرب العراق. ويأمل شرودر أن يستعيد مركزه السابق في قائمة المقربين من البيت الأبيض بعد أن فقد هذا المركز وقاطعه الأميركيون ما دفعه في فترة الحرب إلى الاطلاع على مواقف واشنطن من خلال وسائل الإعلام وظل الخط الساخن الذي يربط بين برلين وواشنطن صامتا طيلة هذه الفترة. وتقول مصادر دبلوماسية في برلين ان واشنطن ولندن تسعيان إلى استخدام اللقاءات الثنائية التي ستتم على هامش اجتماعات الجمعية العامة للكشف عن الخطوات القادمة بشأن العراق ويعتزم كلاهما العمل على توزيع أعباء مرحلة ما بعد الحرب على أطراف دولية أخرى لكنهما لا يريدان التفريط تحت أي ظرف بنفوذهما الحالي في العراق. ولم تغير القمة الثلاثية التي دعا إليها شرودر وشارك فيها يوم السبت الماضي المستشار الألماني ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك، من المواقف المتباعدة حول الحرب والمرحلة التي تبعتها. ويلاحظ المراقبون كيف تبنى شرودر بصورة مفاجئة القيام بدور جديد يرمي من ورائه إلى استعادة ثقة البيت الأبيض وتشجيع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا كي تعدل موقفها. وقال شرودر في مقابلة صحافية قبل أيام: دعونا نتطلع إلى الأمام. ويرى المحللون في هذا التصريح وتصريحات مسئولين ألمان آخرين، تغييرا في الموقف الألماني. فقد تم الكشف قبل وقت قصير على اللقاء المنتظر بين بوش وشرودر أن ألمانيا مستعدة لتقديم مساهمة إلى العراق ويجري الحديث بصورة خاصة عن استعداد برلين إلى القيام بتدريب أفراد في جيش وشرطة العراق في أكاديميات عسكرية بألمانيا، وقالت مصادر صحافية ان شرودر سيطلع بوش على عدد من عروض المساعدة لكنه سيتجنب التطرق إلى موضوع إرسال جنود ألمان إلى العراق لأنه من الصعب على شرودر الحصول على تأييد الغالبية في البرلمان الاتحادي. ويرى المحللون أن عروض المساعدة بتدريب الجيش والشرطة والإسهام بمشروعات إعادة الإعمار هي ثمن إعفاء ألمانيا من المشاركة بجنود. لكن موقف برلين سيتعرض للحرج إذا طلب حلف شمال الأطلسي مساهمة عسكرية ألمانية إذا كلّفته الأمم المتحدة بمساعدة قوى التحالف. في الغضون أصبح بحكم المؤكد أن ألمانيا ستشارك في مؤتمر البلدان المانحة للمساعدات للعراق المقرر انعقاده يومي 32 و42 أكتوبر/تشرين الأول المقبل في العاصمة الاسبانية. وقالت وزيرة التعاون الاقتصادي والإنماء هايدي ماري فيتشوريك تسويل وهي أبرز منتقدي حرب العراق، انه من الطبيعي أن تشارك بلادها في هذا المؤتمر فيما أعلن وزير الداخلية الألماني أوتو شيلي أن فريقا من الخبراء التقنيين الألمان توجهوا إلى بغداد لعرض خدماتهم في مجال إصلاح منشآت المياه والصرف الصحي لها كما تفكر برلين في تنفيذ برنامج تدريب مهني للشباب العراقي.
ويرى رئيس تحرير صحيفة (دي تسايت) الأسبوعية ميشائيل ناومان أن شرودر يسعى إلى الحصول على مكان قيادي في السياسة الدولية وأن الطريق لتحقيق هذا الهدف يمر عبر واشنطن وليس عبر باريس أو لندن. وقد أدرك شرودر على ضوء الأنباء التي تتحدث كل يوم عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف الجنود الأميركيين في العراق والمصاعب التي بدأت تحرج موقف بوش، أنه بوسعه استغلال الظرف الحالي لإعادة الأمور إلى نصابها مع واشنطن وحصول ألمانيا على دور عالمي بارز يعكس ثقتها بنفسها وهذا ما سيشير إليه شرودر في الكلمة التي سيلقيها أمام الأمم المتحدة بعد اجتماعه ببوش. وقد كلف المستشار الألماني مساعديه التركيز في نص الكلمة التي سيلقيها على رغبة بلاده في الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي وعن استعدادها لتحمل المزيد من المسئوليات الدولية وخصوصا السياسية والاقتصادية بينما استخدام القوة العسكرية يبقى آخر خيار وأن يجرى في المستقبل محاربة الإرهاب من خلال زيادة برامج الإنماء ومحاربة الفقر في دول العالم الثالث. لكن أهم ما يرغب شرودر في تحقيقه خلال زيارته للضفة الأخرى من المحيط الأطلسي هو عقد صلح مع الرئيس الأميركي لكنه يريد ذلك دون حاجة لحني رأسه، بداية بالقمة الثلاثية في برلين إذ كانت الرسالة من وراء المؤتمر أن ألمانيا دولة قيادية لا يمكن تجاهلها في أوروبا ويتحدث المراقبون منذ الآن كيف سيعمل شرودر على تشجيع الدول العربية على تحمل المسئولية تجاه العراق حين يزور مطلع الشهر المقبل مصر والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. منذ وقت يجري الحديث في مقر المستشار ووزارة الخارجية الألمانية عن ضرورة دمج مجموعة من البلدان العربية والإسلامية في عملية بناء عراق جديد. ولاشك أن الرئيس الأميركي الذي تتراجع شعبيته بسبب ضعف الاقتصاد الأميركي ومخاوف الشعب الأميركي من فيتنام جديدة على أرض العراق، سيتجاوب مع شرودر لأن بوش بحاجة ملحة إلى مساعدة دولية لتخفيف أعباء الحرب عن كاهل بلاده. وقالت مصادر دبلوماسية انها تتوقع أن يطلب شرودر من بوش وضع خطة زمنية على غرار خريطة الطريق الخاصة بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، تكشف فيها واشنطن عن موعد نهاية احتلال العراق وتسليم السلطة السياسية إلى حكومة عراقية منتخبة. ومثلما تغيّر الموقف الألماني تجاه الولايات المتحدة، تغير الموقف الأميركي أيضا.
العدد 382 - الإثنين 22 سبتمبر 2003م الموافق 26 رجب 1424هـ