في المحصلة كان فتح باب الاجتهاد لدى الشيعة وخصوصا بعد نهاية السلاجقة واجتراء الفقيه الشيعي ابن إدريس الحلي على الدعوة إلى الخروج عن الطاعة العمياء للشيخ الطوسي وتعطيل النظر في فقهه واجتهاده، كان كل ذلك مدعاة إلى تكون دائم للمسافات العظمى أحيانا بين فقيه شيعي وفقيه شيعي آخر، ما تمظهر ويتمظهر دائما اختلافا في أحكام غاية في الحساسية «ولاية الفقيه مثلا» وغيرها مما يتصل بالفقه السياسي والدستوري بناء على حجم الجرعة المتحققة في عملية الاستنباط من مسلمات المنظومة العقائدية.
ولا بد ان نتذكر هنا ونذكّر بأن المسافة بين الفقه الشيعي الاثني عشري الاصولي (نسبة إلى أصول الفقه) والفقه الشيعي الاثني عشري الاخباري، تبلغ من البعد والعمق حد عدم القدرة أو صعوبة تشخيص الصلة المذهبية الفقهية بين الفقهين، ما كان هو الكامن وراء الصراع الذي حصل بين الاصوليين والاخباريين في القرن التاسع عشر الميلادي واصطبغ بالدم أحيانا، ثم عاد يهدأ بعد ما سلم الاخباريون بغلبة الاصوليين. واندمجوا في إطار الحوزات العلمية حتى قربت المسافة العملية بينهم، وأثرت بشكل ملحوظ على المسافة العلمية ولصالح المنهج الأصولي الاجتهادي أكثر الاحيان، حتى أصبح عدد من علماء الاخبارية يبلغون درجة الاجتهاد ويقدمون أنفسهم باعتبارهم مجتهدين.
هل تتحمل المسافة بين الفقه السني والفقه الشيعي - على صعوبة التعريف الجامع المانع لكل منهما - مسئولية التمايز أو التباعد عن مقتضيات الوحدة في التاريخ الاسلامي، بحيث نعود لنحملها مسئولية ما قد يترتب على إذعاننا لاملاءات الآخرين على طريق التفرقة والصراع الآن؟
سأحاول هنا ان ارسم علامات او مفاتيح للشروع في تدبر الاجابة المتأنية والمشتركة على السؤال. مبتدئا من استرعاء نظر وعلم ودين الجميع وحرصهم، إلى أننا الآن، نحن المسلمين شيعة وسنة على أهبة الدخول في معمعة صراعية تعيد إلى الذاكرة تاريخا بعيدا، لا علاقة لمشاهده الجارحة، بعلمنا وعلمائنا فضلا عن عقائدنا... وستضيف اليه ما يجعله أقل مرارة في ذاكرتنا من الراهن والآتي.
إذن فلابد ان نسعى معا إلى تفادي مشهد جارح متوقع وواسع، إن لم يكن مدمرا لكل شيء، فلابد ان يكون إعاقة نوعية على طريق دنيانا وآخرتنا.
اننا لا نبالغ عندما نقول ان حركة الفتنة في هذا العصر، وعلى إيقاع المتحولات العلمية وثورة الاتصالات والمواصلات، لم يعد من شأنها ان تنحصر في اماكن نشوئها، بل هي ترجع إلى العموم والشمول بسرعة فائقة، وخصوصا عندما يتولى الاعلام، والفضائيات بصورة خاصة، نقل وقائعها كاملة أو منقوصة أو مزيدا عليها ما يتحول إلى زيت يؤجج نارها... وما من حادث جزئي يحدث الآن في حي من أحياء مدينة في اوروبا وفيه رائحة صراع مذهبي، أو فيه قطرة دم حرام مراقة مجانا من هنا أو هناك، إلا ويصل مع كل البهارات الحادة وذات النكهة الكاوية إلى باكستان مثلا وغيرها... وبعد أيام أو أسابيع يلد الدم دما باكستانيا أغزر وأشد هدرا أو إيلاما.
ودعك مما يثيره في أماكن أخرى، وما يحدثه ذلك من تضييق مساحة الاتفاق الاسلامي على القضايا الكبرى (فلسطين مثلا) والتي كانت منذ كانت نصابا للتوحيد والوحدة والشراكة الجهادية، لموقعها في نظام حياتنا وحضارتنا وكرامتنا المقارب لموقع التوحيد في نظام عقيدتنا، ما يعني ان المس بها مسٌّ بالتوحيد والمس بالتوحيد مسٌّ بها، ولا مجال في هذا المجال لتبرئة فاعل أو منفعل، ولا يكفي تمجيد محق وترذيل مبطل، لأننا جميعا نكون مبطلين، لان الحق هو الذي يتوسط ويحث على التسوية، والعدل هو الذي يعم الجميع.
وماذا بعد؟ لو تركت خلافاتنا، منذ القرن الهجري الاول، اي اجتهاداتنا، اي معرفتنا المتعددة بالاسلام، والتي يقرها الاسلام ويريدها «اختلاف أمتي رحمة» لو تركت هذا الخلافات تنمو أو تتحرك بشكل طبيعي وحر وإيماني ومن داخلها لكان حالها وحالنا أقرب إلى الصواب والسلامة، اي لكان الحوار بين المعارف المتعددة والمختلفة وبين العارفين من العلماء، أنشط وأقرب إلى التكامل وترجيح الوفاق وضبط الخلاف، ولما كان من شأنها ان تفجر دماء وصراعا... لو لا ان مؤثرا خارجيا تداخل مع نسيجها الداخلي... السياسة... السياسة السلطانية، بعد العهد الراشدي، اي بعد عهد السياسة الامامية أو الخلافية، بمعنى الخلافة عن الرسول (ص)، اي التأسي والاتباع والاجتهاد في ذلك، ما جعل المنهج الحاكم على الجميع، هو ازاحة المشروعات الخاصة عن طريق المشروع العام، مشروع الأمة... وأحسن المسلمون الأوائل في هذا السياق فن التنازل الدائم عن التفاصيل والجزئيات حفظا للأصول، لموارد الاحتياط، وصيانة لمقاصد الشريعة، أحسنوا التسوية وظلوا يتعاطونها حفاظا على الوجود وطموحا إلى تحقيق كمالات هذا الوجود، إلى مقتل الحسين (ع) وإباحة المدينة وهدم الكعبة الخ...
لا ألحُّ على الاستذكار... فالآن المسألة اشد خطرا والأعداء اكبر واخطر بكثير مما عرفنا والمؤثرات الخارجية والرياح العاصفة تمتد مصادرها علينا من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض وحكامنا ودولنا أضعفوا من حالهم وحالنا، وليس الوقت وقت محاسبة، حتى استُضعفوا واستُضعفنا، وأتانا الآخرون، الأعداء دائما، ليقولوا لنا لستم جديرين أو مؤهلين لبناء دول ومجتمعات، نحن نبنيها لكم على مقتضى مصالحنا... وأخيرا يقول لسان حالهم لنا لستم مؤهلين لأن تكوّنوا مجتمعات. نحن نفرقكم لنعيد جمعكم على نصابنا!!!
هل يتسع فقهنا الخلافي الآن، مع كل المستجدات المعرفية العظيمة والواسعة، إلى تغطية سلوكنا الآيل إلى صراع دموي يقع في دائرة إدارة غيرنا؟
هل الصراع المذهبي المدمر الموعود، لا حقق الله موعده ووعده، بشرط جهودنا وجهادنا طبعا، هل هذا الصراع هو خير تطبيق لنظرية تكونت منذ ضرب فيتنام، اي عدم جواز ان يقاتل الاميركيون بلحمهم؟ بل بلحم غيرهم، اي لحمنا؟ كانت هناك ضرورة اميركية في حصر احتلال العراق. أما الآن فموجبات الحصرية انتهت... ومن هنا عادوا إلى الأمم المتحدة والقوات المتعددة الجنسية... فماذا نحن فاعلون؟
هل نخرج من فضائنا الدولي؟ هل نخرج من ذاتنا؟
هل نتقاتل لنوفر على الآخرين دماءهم واموالهم. المسألة الآن هي بحجم وجودنا ومستقبلنا... ولا بد من مبادرة جادة عربية اسلامية فكرية علمية وسياسية تحصينا للعراق، تحصينا لنا في العراق من اخطار ماحقة!
وإذا كان لابد من إيقاظ الذاكرة احتياطا لسلامة الرؤية راهنا والاستشعار الدقيق مستقبلا فإن في تاريخنا الاسلامي الاول، ومنذ بدرت بوادر الاختلاف الطبيعي، ألف دليل ساطع وملموس وملزم، على أن أهل العلم والصلاح من الخلفاء الراشدين إلى التابعين وتابعي التابعين من الصحابة والمتأسين بهم، لم يسمحوا للخلاف بأن يتحول إلى دم حرام وخراب عام... والذين اقترفوا ذلك كانوا اقرب إلى الجهل والجاهلية منهم إلى العلم والاسلام، وكان الدين ذريعتهم لاغايتهم والدنيا مقصدهم لا الآخرة... ونحن الآن أيننا من أولئك وأولئك؟
اما تاريخنا الحديث في ايثار الوحدة على الفتنة ففيه ان السنة والشيعة في الجليل وعامله من بلاد الشام تقاتلوا، ولكن ظاهر العمر وناصيف النصار قائدي الفريقين، تصالحا وقاتل الجميع ومعا أهل الجور والطغيان، وقدموا أمثولة تستحق ان تستعاد... وعانى الشيعة مع سائر المسلمين وزيادة عليهم أحيانا. من جور العثمانيين وجهلهم، من دون ظلم وافتئات على العظماء من سلاطين آل عثمان وخصوصا سليمان، ولكن الشيعة مع المسلمين إلا من شدّ منهم لأسباب مختلفة، مالوا في اللحظات الحرجة إلى جانب السلطنة، وأنصفوا عبدالحميد من دون ان يسوغوا أخطاءه، في مواجهة الهجمة الاستعمارية عليه، وعطلوا تناقضاتهم مع الاتحاديين على مفصل الحرب الكونية الاولى ايثارا للوحدة في مواجهة الاخطار العظمى، وعندما سقطت الدولة واعلن فيصل نفسه ملكا على بلاد الشام ناصروه علنا وبحماس وهو لم يكن يغري الشيعة منهم بتشيع ذرائعي بل كان صريحا في تسننه وفي محطة الثورة الدستورية (المشروطة) التي تأسست في اسطنبول وكان لها صدى عظيم في طهران، اندمج مجتهدو الشيعة في سياق المطالبة بالحرية والتحديث الأصيل، وعندما بدا ان الشاه القاجاري يتلكأ في تطبيق الدستور، وان السلطان محمد رشاد في اسطنبول ماض في وعده بتطبيق هذا الدستور، ارسل مجتهدو النجف العشرة الكبار رسالة التهديد إلى الشاه القاجاري ورسالة تأييد إلى محمد رشاد مشفوعة بالولاء والبيعة على موجب الدستور... باسم الشيعة من دون ان يعترض معترض اللهم الا أولئك القلة من دعاة الاستبداد وتبعا للاختلاف على هذه المسألة (الاستبداد والدستور) لا على أساس الاختلاف بين السنة والشيعة.
إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"العدد 382 - الإثنين 22 سبتمبر 2003م الموافق 26 رجب 1424هـ