العدد 3811 - الإثنين 11 فبراير 2013م الموافق 30 ربيع الاول 1434هـ

تونس والامتحان الأصعب

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

حدث المتنبي ذات وفاة قال:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتّى إذا لم يدع لي صدقه أملاً

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

وهكذا تحدّث ملايين التونسيين صباح الأربعاء الماضي، حين أفاقوا على نبأ اغتيال الشهيد شكري بلعيد، المنسق العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، والقائد الرمز في الجبهة الشعبية. وهي سابقة لا عهد لتونس الخضراء بها. هي بكلّ المقاييس فاجعة وأنَّى لمهد الربيع العربي أن يصدقها.

ذلك أن تونس لا عهد لها بمثل هذه الأحداث إلا في مناسبتين يتيمتين؛ أما الأولى فهي اغتيال الزعيم السياسي والنقابي فرحات حشاد سنة 1954 وكان ذلك في تونس وقبل الاستقلال، والأرجح أن وراءها أياد أجنبية. وأما الثانية فكانت اغتيال الزعيم صالح بن يوسف بعد الاستقلال سنة 1961 خارج تونس في ألمانيا، والأرجح أنها مؤامرة بورقيبيّة. وأما الثالثة فرصاصة في قلب ثورة 14 يناير (كانون الثاني) السلمية، رصاصة غادرة أودت بحياة الفقيد شكري بلعيد، أرادت الأيادي الآثمة التي وراءها أن تعصف باستقرار البلاد في فترة الانتقال الديمقراطي، أشهراً قليلة قبل الانتخابات المنتظرة. لكن التونسيّين، وبمختلف أطيافهم، خرجوا في جنازة الفقيد شكري بلعيد المحامي والحقوقي والمناضل، في جنازة تاريخية تمثل استفتاءً شعبياً لنبذ العنف، ليقولوا بصوت واحد: «تونس بخير»، وليبعثوا برسالة إلى العالم، وخصوصاً إلى الأطراف الأجنبية الخفية وراء الاغتيال والتي لم يرقها الانتقال الديمقراطي السلمي، مفادها: «موتوا بغيظكم» ستبقى التجربة التونسية في التحوّل السلميّ الديمقراطيّ نموذجاً يحتذى، وسيثبت الشعب التونسي مرةً أخرى أنه أهل للحرية والتعايش السلميّ والنهوض بنفسه وبناء غده وإعمار جمهوريته الثانية، دولة القانون والمؤسسات، الدولة الديمقراطية التي تتسع لكل أبنائها، دولة العدالة والحريات التي بشرت بها ثورة الياسمين التاريخية.

لكنّ المتابع عن كثب للمشهد السياسي التونسي، وخصوصاً من الداخل، كان ينتظر حدثاً ما، صدمةً قد تغيّر مجرى الحياة السياسية، وفعلاً كان اغتيال المعارض السياسي البارز شكري بلعيد صدمة إيجابية، تجعل كل طرف في المعادلة السياسية يثوب إلى رشده، ويجعل مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات الحزبية. ولعلّ مبادرة رئيس الحكومة الانتقالية حمادي الجبالي إلى تكوين حكومة تكنوقراط هي إحدى ارتدادات هذه الرجّة السياسية، فكيف سيتفاعل معها السياسيون في تونس؟ ها هو حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الحليف الأول لحزب حركة النهضة، يسحب وزراءه من الحكومة، أما حزب التكتل، الحليف الثاني، فقد بارك مبادرة رئيس الحكومة منتظراً الأسماء التي سوف تكشف عنها قائمة الجبالي المنتظرة، في حين أن حزب حركة النهضة وبعد اجتماع مكتبها السياسي، يتمسك بحكومة وفاق وطنية تتكون من كفاءات حزبية تستند إلى شرعية الانتخابات.

وأما رئيس الحكومة فصرّح بأن التشكيلة المنتظرة إن لم تحظ بمباركة الأحزاب، فإنه سيطلب من رئيس الجمهورية تكليف شخص آخر لتكوين الحكومة.

إذاً هي الرجّة في المشهد السياسي، ستخبرنا الأيام القليلة القادمة عن نتائجها. ولكن، وفي انتظار ذلك، يبدو جلياً أن النخب السياسية والإعلام المسيّس مدعوّان إلى التخلّي عن الترويج للخطاب السياسي التحريضي غير المسئول، أو الادعاءات والاتهامات المريبة، وأن يترك مجال التحقيق في ملابسات الاغتيال إلى أهل الاختصاص.

إن التونسيين اليوم مدعوون جميعاً، وأكثر من أي وقت مضى، إلى القطع مع الخطابات التي من شأنها أن تهدد الأمن والسلم الأهليّ، وتربك مسار الانتقال الديمقراطيّ. والجميع يعلم ما يتصف به أهل تونس الخضراء من تسامح، ولا يصدق عاقل أن يكون هذا الاغتيال، وفي هذا الظرف بالذات، بتلك الأيادي التي رسمت في كتب التاريخ المعاصر أروع الصفحات للتوحد ضد العنف والعنف السياسي بالذات، وبرهنت في مناسبات كثيرة، خلال العامين الماضيين، استعدادها للتصدي لكلّ من يحاول تفريق الشعب التونسي، ويزرع الخوف والرعب والكره والتباغض، وكل من يحاول أن ينتهك أمن البلاد واستقرارها.

إن هذه اللحظة التاريخية العسيرة، لحظة الاغتيال السياسي، والتي لم يسعد بها إلا أعداء تونس الجميلة، بقدر ما تشكّل صدمة قوية على شعب مسالم لم يتعوّد حمل السلاح أو استعماله، فإنها تمثل فرصةً تاريخيةً حقيقيةً لكل العائلات السياسية في البلاد، لكي تعمل على تحقيق أهداف ثورة أبنائها وحلم شهدائها في الشغل والكرامة والحرية.

نعم، إن كل من يعرف التونسيين، يعلم علم اليقين أنه لم يَفُتهم القطار، قطار البناء الديمقراطي، وأنّ هذه الكبوة ما تزيدهم إلا قوة وإصرارا. وإن تونس، اليوم، شعباً وحكومةً، أمام الامتحان الأصعب وما على من هم في سدّة الحكم إلا أن يستفيقوا من نشوة شرعية صناديق الاقتراع التي أوصلتهم إلى الحكم، وأن ينتبهوا إلى خطورة الموقف. وكذلك على من هم في المعارضة أن يتوقفوا عن الخطاب المشحون والمتوتر والتطرف أحيانا في المواقف التي تغذي أجواء الاحتقان.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 3811 - الإثنين 11 فبراير 2013م الموافق 30 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 11:42 ص

      الله يستر لو يستقيل

      وأما رئيس الحكومة فصرّح بأن التشكيلة المنتظرة إن لم تحظ بمباركة الأحزاب، فإنه سيطلب من رئيس الجمهورية تكليف شخص آخر لتكوين الحكومة.

    • زائر 6 | 2:49 م

      رائعة أبيات المتنبي في رثاء أخت الأمير سيف الدولة

      طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
      فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
      حتّى إذا لم يدع لي صدقه أملاً
      شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

    • زائر 5 | 5:56 ص

      مقال مهم

      فعلا مقال مهم سواء للقارئ العربي والخليجي لمن يريد مد جسور التواصل مع تونس أو للقارئ التونسي لما اتسم به من توازن

    • زائر 4 | 3:28 ص

      شكرا

      النص متوازن وحصيف

    • زائر 3 | 11:41 م

      اغتيال المعارض السياسي البارز شكري بلعيد صدمة إيجابية،

      نرجو ذلك

    • زائر 2 | 11:28 م

      الحمد لله أبعد الله الشر وكابوس الاغتيال عن تونس

      ذلك أن تونس لا عهد لها بمثل هذه الأحداث إلا في مناسبتين يتيمتين؛ أما الأولى فهي اغتيال الزعيم السياسي والنقابي فرحات حشاد سنة 1954 وكان ذلك في تونس وقبل الاستقلال، والأرجح أن وراءها أياد أجنبية. وأما الثانية فكانت اغتيال الزعيم صالح بن يوسف بعد الاستقلال سنة 1961 خارج تونس في ألمانيا، والأرجح أنها مؤامرة بورقيبيّة.

    • زائر 1 | 10:47 م

      سلمت يداك يا أستاذ

      مقال جميل والله

اقرأ ايضاً