الرحلة إلى القدس الشرقية العربية تجربة لا تنسى حتى لو تكررت كل يوم، إنها حج من نوع آخر وعمرة من نمط لم أتخيل وقعه. هذه هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى «مدينة السلام»، والتي احتلت العام 1967 بينما احتل نصفها المكمل لها (القدس الغربية) العام 1948.
هذه هي المرة الثانية التي أذهب فيها إلى فلسطين المحتلة. فبعد مشاركتي في مؤتمر «مسارات» الفلسطيني في مدينة رام الله في الضفة الغربية المحتلة هذا الشهر لم أستطع مقاومة فكرة الذهاب إلى القدس.
ومع اقتراب المركبة من منطقة القدس وبعد اجتياز ذلك الجدار المرعب الذي يطوّق مناطق السلطة الفلسطينية التي تسيطر على 40 في المئة من الضفة الغربية، وبينما تسرد مرافقتي المقدسية تاريخ المدينة وواقع الاحتلال بدأت أرى العمران اليهودي الممتد الذي أقامته إسرائيل لتطويق القدس.
تقول لي مرافقتي الأستاذة الجامعية المقدسية: للقدس بعدان: الأول المدينة القديمة بمنازلها وأزقتها وسلالمها وأماكنها المقدسة المحاطة بأسوارها الجميلة وبواباتها الهائلة، أما البعد الثاني للقدس فهو منطقة القدس الكبيرة التي تحيط بالمدينة ويسكن فيها مئات الألوف من الفلسطينيين.
وبينما تتحدث سارعت قائلة: «انظر إلى يمينك فهذه أحياء يهودية جديدة خارج أسوار المدينة وتطوقها وقد أقيمت على أراض عربية محتلة العام 1967، وهنا على الجهة المقابلة هناك أحياء العرب القديمة الواقعة خارج أسوار المدينة والتي تسعى إسرائيل لتطويقها وتهجير أهلها من خلال المضايقات اليومية للسكان وإيجاد المصاعب أمام حركتهم وعملهم وأعمالهم وحقوقهم».
وكيفما نظرت بالاتجاه الممتد تبيّن لي أن هذه الأحياء العربية خارج المدينة تشبه نظيراتها في البلدان العربية من حيث الحركة والاكتظاظ وطبيعة البناء، لكن كثافة المستوطنات اليهودية التي تطوق المدينة القديمة تكاد تأكل كل المساحات. في منطقة القدس أكثر من 300 ألف عربي يحاصرهم 300 ألف يهودي من المستوطنين الذي صادروا أراضي تابعة للمدينة القديمة وتقع حولها.
أقول لمحدثتي: «أليس هذا الاستيطان والعمران اليهودي الموجه ضد الوجود العربي في القدس شكلاً من أشكال العنف اليومي؟ أليس العنف أن تأخذ أرضاً من الغير، ثم تصادرها، ثم تبني عليها بعد منعه من استخدامها، ثم تضع حولها سياجاً وبوابة وتسكن فيها غرباء، ثم عندما يحتج ويغضب ويتمرد تصطاده وتسجنه وتبعده؟».
إن الاستيطان في القدس وفي فلسطين فعل من جانب واحد. فمن جانب واحد احتلت إسرائيل أراضي الفلسطينيين العام 1948، ومن جانب واحد صادرت ممتلكاتهم الفردية والشخصية والوطنية، ومن جانب واحد احتلت أراضي القدس والضفة وغزة في حرب 1967، ومن جانب واحد استوطنت أينما أرادت في الأرض وحسمت خياراتها فقتلت حل الدولتين لصالح الدولة الواحدة.
لكن محدثتي أوضحت بلا تردد: «لهذا نبقى في منازلنا على رغم كل المصاعب والحواجز، لهذا نحب المدينة ونتمسك بكل مساحة وسط قساوة حياتنا اليومية.
الحياة هنا مؤلمة: تهديد للأعمال، اعتقال للشباب، ملاحقة للمراهقين، منع للتوسع العمراني، إفقار للسكان ومبالغة في الضرائب. في حالتي يرفضون مثلاً ترقيم منزلي، كل هذا تمهيد للمصادرة، ومنذ مدة وجيزة منعوني من وضع سيارتي في مصاف تابعة لمسكني ثم قاموا بتسليمها للمستوطنين. المضايقة وإيجاد الألم فعل يقع كل يوم لأن الاحتلال يحمل روحاً عدائية تجاه السكان العرب في القدس، وهدفه تخفيف أعدادهم بأقل إثارة دولية ممكنة بينما يقوم بخدمة المستوطنين في كل مكان».
وبعد أن عبرنا كتل الاستيطان الإسرائيلية الأسمنتية الكبرى التي تحيط بالقدس العربية إذا نحن أمام إحدى بوابات المدينة القديمة. دخلنا في المركبة في الشارع الصغير، وبدأنا باستكشاف القدس الشرقية. تملكتني الدهشة وأنا أتمعن شوارعها القديمة ومبانيها العريقة. هذه مدينة ينطق كل ما فيها بالتاريخ والحضارة، لكنها في الوقت نفسه تعيش حزناً يعكس الحروب من حولها واحتلالها منذ أكثر من 45 عاماً.
وفي القدس القديمة الشرقية مهد حضارات العالم القديم نجد أن المستوطنين قد حققوا بعض الاختراقات فيها. فقد سيطروا على منازل في المدينة حولوها إلى بؤر استيطانية. تبدأ عملية الاستيطان بمصادرة مبانٍ تقع وسط القدس، ثم التمدد من تلك النقطة بحراسة الجيش الإسرائيلي. مررت بينهم، رأيتهم عن قرب وأنا أمر بين الأزقة، فهم جميعاً من المتدينين اليهود. وتشير الإحصاءات إلى أن عدد المستوطنين في القدس الشرقية تجاوز الأربعة آلاف، إنهم في حالة ازدياد وتمدد.
ويقف في القدس الشرقية موقعان مهمان من بين عدة مواقع دينية أخرى، الأول هو المسجد الأقصى. فوجئت بحجم المسجد، وفوجئت عندما شاهدت الساحات التي تحيط به وتقع ضمن أسواره. ثم صدمت عندما رأيت تحت المسجد الأقصى وتحت ساحاته الممتدة مسجداً آخر (على شكل سرداب) وهو المسجد الأقصى القديم الملقب بالمرواني والذي يتسع لألوف مؤلفة من المصليين.
لقد افتتح هذا الجزء من الأقصى (المرواني) أخيراً وهو جاهز لاستقبال المصلين، وسمي المرواني نسبة للخليفة الأموي عبدالملك بن مروان. مساحاته كبيرة وفيه قسمٌ للنساء وآخر لكل جموع المصلين. وفي المسجد المرواني آثار الصليبيين الذين حوّلوا المسجد في أواخر القرن الحادي عشر إلى إسطبل قبل أن يحرّره صلاح الدين. وفي الجهة الأخرى من ساحة المسجد الأقصى تقع قبة الصخرة التي بني حولها مسجد آخر للصلاة. وهي الأخرى مكان للصلاة وجزء من المسجد الأقصى، والمكان الذي ارتبط بالإسراء والمعراج.
وعند السير خارج المسجد الأقصى وخارج أسواره ستصل بعد حين لكنيسة القيامة التي تحمل تراثاً مسيحياً خالداً في المدينة القديمة. هناك مرّ المسيح، وهناك تألم وصلب وصعد كما هو الاعتقاد المسيحي. الكنيسة فيها تاريخ من العراقة ولكل غرفة وزاوية فيها تاريخ ومعنى. كما تقع حول الكنيسة مساجد منها مسجد الخليفة عمر بن الخطاب.
ولتحكم إسرائيل سيطرتها منعت أهالي الضفة الغربية المحتلة ومنعت أهالي غزة من القدوم إلى القدس إلا بتصريح خاص وفي أيام محددة. وهذا يعني منع الفلسطينيين عملياً من الصلاة في المسجد الأقصى. لقد أصبحت القدس في السنوات القليلة الماضية مكاناً يؤمه أساساً (إضافة إلى سكان القدس) عرب فلسطين 1948 من حاملي الهوية الإسرائيلية. فالقدس ومسجدها الأقصى وأيضاً كنائسها وجوامعها تنتعش صلاةً وروحاً بتردد سكان القدس المرابطين فيها وفلسطينيي 1948 عليها. إسرائيل لا تستطيع منع هذه الفئة من الفلسطينيين من الحج إلى بيت المقدس.
في كل ما رأيت في القدس ازددت وضوحاً بأننا كعرب في صراع لا نهاية قريبة له. فعلى رغم مرور مئة عام على الحركة الصهيونية إلا أن هذا الصراع يكتسب بعداً متجدداً كل عدة عقود، وفيه يتداخل الحياتي واليومي والحقوقي بالمقدس والسياسي. عندما تدخل القدس تعي جيداً أنك دخلت عين العاصفة، ستشعر بحجم التاريخ يقف على كتفيك وستعرف أنك في مكان ما بعده مكان.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 3807 - الخميس 07 فبراير 2013م الموافق 26 ربيع الاول 1434هـ