عندما تصدر قراءة معينة من أحد الباحثين المتخصصين فالمتوقع منها أن تتصف بالموضوعية والحياد وعدم الانسياق وراء وجهة نظر واحدة، والتقليل من شأن وجهات النظر الأخرى... لأنها بذلك تفقد الباحث أهم خصائص الأسلوب العلمي الذي يجب أن يتميز به.
ولقد لفت نظري قراءة الباحث القانوني خالد علي أحمد في قانون النقابات العمالية بتاريخ 3 سبتمبر/ أيلول الجاري، فوجدتها قراءة لم تكتمل لأنها كانت بعين واحدة وأغفل الأخ الباحث القراءة بالعين الأخرى حتى تكتمل الصورة لديه وتخرج قراءته موضوعية وحيادية، غير منحازة لطرف على حساب طرف آخر ولا تستهين بعقول الآخرين لمجرد مخالفتهم لوجهة النظر التي ينساق الباحث إلى تأييدها، وكأنه يريد أن يطبق علينا نظرية النظام العالمي الجديد (من لم يكن معنا فهو ضدنا) ليعود بنا إلى الوراء في الأزمنة الغابرة إذ النظرة الاستعلائية ضد الرأي الآخر وان كان صائبا «قالوا أونؤمن لك واتبعك الأرذلون» (الشعراء: 111).
فالقراءة الموضوعية تحتم على صاحبها عدم الانسياق وراء الأهواء والعواطف وبالتالي يتحتم عليه طرح وجهات النظر المتعارضة من دون الاستهانة بعقول الآخرين وتسفيه آرائهم من أجل الانتصار لجهة معينة، والحيادية لا تعني التهجم على طرف بأنه لا يفقه القانون وكأن القانون وضع لجهة معينة لا يمكن فهمه وتفسيره إلا حسب الوجهة التي تريد، ومن حقها اتخاذ الإجراءات التعسفية بحسب مفهومها من دون رقيب أو حسيب.
وفي اعتقادي أن الأخ الباحث خالد علي لو قرأ القانون قراءة متأنية ومتعمقة، قبل أن يخرج علينا بموضوعه متعجلا وهو يحوي الكثير من المتناقضات التي لا تتلاءم مع ما ألزم به نفسه من أحكام، لكانت الفائدة أعم، لذلك ومن منطلق حرصنا على توضيح بعض الأمور سنناقش بعض التناقضات التي وردت في مقاله والتي منها:
أولا: لقد اتهم الأخ خالد المعارضين لتعميم ديوان الخدمة المدنية بأنهم لا يفقهون في القانون مع العلم بأن منهم محامون ومستشارون ومتخصصون في الأدب والقانون وغيرهم، وهو كلام ينقصه الدليل ولا يصمد أمام الواقع.
ثانيا: تحدث الأخ خالد عن ضرورة معالجة الأمور من خلال المجلس التشريعي حتى لا يتم الحل خارج الإطار الدستوري وخارج القانون، فلماذا لا يسأل نفسه وهو المؤيد للتعميم الصادر من ديوان الخدمة المدنية، هل هذا هو الإطار الدستوري والقانوني السليم، وهل يعتبر الإجراءات التي اتخذت بحق الموظفين في القطاع الحكومي هي إجراءات شرعية... مع وجود نص صريح في قانون النقابات العمالية في الباب الرابع، المادة (71) يقول (يكون حل المنظمات النقابية أو مجالس إدارتها وفقا للإجراءات المنصوص عليها في نظامها الأساسي أو بناء على حكم قضائي، فهل كان التعميم هنا أعلى من السلطة القضائية؟ أم أن الأخ الباحث أغفلت عينه الاطلاع على هذه المادة ولم تستطع قراءتها؟
ثالثا: إذا كانت المادة رقم (01) التي أتت لاحقة للمادة رقم (2) قد قيدت ما كان مطلقا حسب وجهة نظر الباحث فماذا يقول عن المادة رقم (12) التي تتحدث عن الإضراب باعتباره وسيلة مشروعة للدفاع عن حقوق العمال ومصالحهم ووفقا لبعض الضوابط، أيمكن أن تدرج المرافق الحيوية كالأمن والدفاع المدني والمطارات والموانئ والكهرباء والماء اعتباطا وهي تحوي بعض المرافق التي لا يمكن أن توجد إلا في القطاع الحكومي... فهل ورودها هنا للعبث أم أن قانون النقابات صدر لبلد آخر غير البحرين ويبقى الموظفون في الوزارات تحت رحمة الإجراءات الإدارية بعيدا عن الأطر الدستورية والقضائية.
رابعا: بالرجوع إلى المادة (72) من الدستور نجد التعميم يتناقض معها تناقضا تاما إذ تنص على (حرية تكوين الجمعيات والنقابات على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية، مكفولة وفقا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون) كما أكد ميثاق العمل الوطني (حرية تكوين الجمعيات الأهلية والعلمية والثقافية والمهنية والنقابات على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية) حيث لم يميز كل من الدستور والميثاق في مادتيهما بين عمال في القطاع الخاص وعمال في القطاع العام... وهنا سؤال يطرح نفسه... أين تكمن المخالفة للإطار الدستوري الذي تحدث عنه الأخ الباحث؟ هل هي في الاعتماد على النصوص الصريحة والواضحة والتي لا تحتمل اللبس أو الغموض، أم في تفسير أحادي اعتمد على جزئية من قانون شامل بغية حرمان العمال في قطاع كبير من ممارسة حقوقهم المشروعة.
خامسا: الاتفاقات والمعاهدات والمعايير الدولية التي تسير عليها منظمة العمل الدولية ومنظمة العمل العربية والتي تتمتع حكومة مملكة البحرين بعضوية عاملة فيها تؤكد هذا الحق وبقوة، ففي الاتفاق الدولي رقم (78) المادة الثانية (للعمال ولأصحاب العمل الحق من دون ترخيص مسبق في تكوين منظمات يختارونها )
كما ورد في المادة(3) فقرة 1 - لمنظمات العمال ولمنظمات أصحاب العمل الحق في وضع دساتيرها ولوائحها الإدارية وفي انتخاب ممثليها بحرية كاملة وفي تنظيم إدارتها ونشاطها وفي إعداد برامج عملها.
فقرة 2 - تمتنع السلطات العامة عن أي تدخل من شأنه أن يقيد هذا الحق أو أن يعوق ممارسته المشروعة.
المادة (4): لا يجوز للسلطة الإدارية حل منظمات أصحاب العمل أو وقف نشاطها.
كما جاء في الاتفاق رقم 89 للعام 9491م بشأن تطبيق مبادئ حق التنظيم والمفاوضة الجماعية، المادة (1) فقرة 1 - يتمتع العمال بحماية كافية من كل عمل يحتوي على تمييز في مجال الاستخدام بسبب انتمائهم النقابي.
إذ مع وجود هذه القوانين التي توفر الغطاء الشرعي للعمال وتحميهم من أي إجراء تعسفي ومع إقرار المجلس النيابي في جلسته بتاريخ 02 مايو/ أيار 3002م لحق التشكيل النقابي للعاملين في القطاع الحكومي، وكذلك تأكيد جلالة الملك على حق العاملين المخاطبين بأنظمة الخدمة المدنية بتشكيل نقاباتهم في 51 يونيو/ حزيران 3002 في اجتماعه مع وفد الاتحاد العام لعمال البحرين، وكذلك في 51 يوليو/ تموز 3002م في لقائه مع عدد من موظفي الدولة العاملين في القطاع الحكومي والمشمولين بقوانين ديوان الخدمة المدنية، إلا أن الإجراءات غير القانونية استمرت ضد العاملين في القطاع الحكومي بسبب انتمائهم النقابي، وليسأل الأخ الباحث نفسه عن سبب هذا الإصرار على المخالفات الصريحة للأطر الدستورية والقانونية.
سادسا: بالمقارنة بين المواد الثلاث التي تضمنها قانون النقابات العمالية وهي المادة الثانية والمادة العاشرة والمادة الحادية والعشرين لم نجد كلمة التحريم التي أشار إليها الأخ الباحث ففي عبارته: ان المادة العاشرة من قانون النقابات العمالية قد حرمت على العاملين المخاطبين بأنظمة الخدمة المدنية حق تكوين النقابات ابتداء، اجتهاد خاطئ و ليت الأخ دلنا على عبارة التحريم الواردة في القانون، ففي المادة الثانية عبارة عربية صريحة تقول، تسري أحكام هذا القانون على:
أ - العاملين المخاطبين بأحكام قانون العمل في القطاع الأهلي.
ب - العاملين المخاطبين بأحكام القانون البحري.
ج - العاملين المخاطبين بأنظمة الخدمة المدنية.
فالعبارة هنا وردت صريحة لا تحتاج إلى من له أدنى معرفة قانونية أو أدبية لتفسيرها، أما المادة العاشرة فقد أشارت إلى حق الانضمام ولم تشر بأية عبارة صريحة إلى تحريم التشكيل، وجاءت المادة الحادية والعشرون لتؤكد ما أشارت إليه المادة الثانية إذ ان الأمن والدفاع المدني وغالبية المستشفيات والكهرباء والماء كلها قطاعات حكومية لا يمكن أن ترد في القانون مصادفة أو تكون كلها عبارات زائدة، الأمر الذي يؤكد أن النقابات في القطاع الحكومي شرعية ولا نعلم إلى حد الآن لماذا هذا الخوف من وجودها؟
إقرأ أيضا لـ "هاشم سلمان الموسوي"العدد 380 - السبت 20 سبتمبر 2003م الموافق 24 رجب 1424هـ