مشروع القرار الذي قدمته المجموعة العربية إلى مجلس الامن، بخصوص مطالبة «اسرائيل» بالتراجع عن قرارها بابعاد عرفات اوتهديد سلامته، وانكسر بالفيتو الاميركي جاء، بمداولاته وسقوطه، بمثابة الضوء الكاشف مرة اخرى لعدة حقائق وعورات في آن. فهو بقدر ما كان نكسة قاسية للدبلوماسية العربية، بقدر ما ساهم في نفض المزيد من غبار الاوهام وفضح عقم المراهنات على وعود ادارة الرئيس بوش وخرائط طرقها، في فلسطين وعموم المنطقة. بل قبل كل شيء على امكان دق اسفين الخلاف بين هذه الادارة وبين «اسرائيل» - وبالتحديد حكومة شارون - او اللعب على وتر تناقض مفترض او محتمل بينهما.
هو نكسة للدبلوماسية العربية، او بالاحرى للقرار السياسي العربي الذي ترتكز عليه، ترقى مستوى الفضيحة. فاذا كان «الثقل» العربي - على فرض انه رمى بكل وزنه في معركة هذا القرار - غير قادر على تمرير مشروع قرار في مجلس الامن، على هذا القدر من التواضع والبديهية، التي تفترض سهولة توفير الإجماع بشأنها، عندئذ يكون سوس الافلاس قد نخر هذا «الثقل» حتى العظم. اما اذا كان هذا «الثقل» لم ينزل إلى الساحة بكل ما عنده من اوراق، فعندئذ تكون المصيبة اعظم، لان هناك في هذه الحال واحد من اثنين: اما لأنه ممنوع عليه النزول ورضخ للمنع، واما لأنه تخلى طوعا عن تحرك اكثر فاعلية، كان بمقدوره - بل من حقه وواجبه ومصلحته - القيام به.
القضية اكبر وابعد من شخص الرئيس الفلسطيني، المحاصر والمهدد بالترحيل او بالاغتيال. وهي لا تتعلق فقط بالمدى البالغ الخطورة الذي وصله الانفلات الاسرائيلي وفجوره العدواني. انها تتعلق ايضا واساسا بنهج اخذ يشق طريقه في التعامل الاميركي - الاسرائيلي مع المنطقة ويهدد بالتالي كل دولها. هذا النهج بدأته ادارة بوش في العراق. ألم تنذر صدام بالرحيل والا القضاء عليه اذا لم يفعل؟
بصرف النظر عن ان صدام حسين كان كارثة غير اعتيادية وكان رحيله رحمة وفرجا للعراق والعراقيين والمنطقة، فإن المشكلة هنا تكمن في ان الادارة الاميركية قررت منح نفسها - على قاعدة التفوق العسكري الكاسح - امتيازا غير مسبوق بموجبه تقرر هي لوحدها، من دون اي قرار دولي، من عليه الرحيل من قيادات المنطقة. وها هي «اسرائيل» تنسخ هذه السابقة وتستقوي بها على الساحة الفلسطينية.
من هنا كان من الضروري توظيف الامكانات كافة لتمرير مشروع القرار امس، وبالتالي احباط هذا النهج، على الاقل في حلقته الاسرائيلية سيما وان المطلوب تمريره (منع الترحيل والاغتيال) ينعقد بشأنه اجماع دولي من حيث المبدأ، كما اكدته ردود الفعل الدولية كافة بما فيها الاميركية، على قرار الحكومة الاسرائيلية، في هذا الخصوص.
في المقابل، ادى سقوط المشروع إلى تسليط الضوء على جملة التباسات واوهام، جرت محاولات كثيرة لطمسها او تزييفها او تجاهلها، امعانا لذر الرماد في العيون. اولها ان الفيتو جاء ليؤكد تطابق الموقفين الاميركي والاسرائيلي. من رئيس السلطة الفلسطينية. اصلا لم يكن للحكومة الاسرائيلية ان تقدم على اتخاذ قرار علني بترحيل عرفات، ناهيك عن التلويح جهارا بالعزم على اغتياله، لو لم تكن على معرفة اكيدة بحقيقة موقف ادارة بوش من هذا الموضوع. بل لو لم تكن على توافق مسبق معها في هذا الشأن. ربما كان هناك قدر من التباين بينهما في الاخراج والتوقيت. صحيفة «جيروزلم بوست» المقربة من الليكود ذكرت انه كان ولايزال هناك اتفاق على ضرورة مغادرة عرفات لكن من دون عنف. اليست ادارة بوش هي التي شقت الطريق المؤدي إلى مثل هذه النهاية، عندما قاطعت من البداية، الرئيس الفلسطيني ورفضت التعامل معه؟ ألم تردد مرارا وتكرارا ان عرفات «جزء من المشكلة وليس الحل»؟ واذا كان الامر كذلك فلماذا لا تقدم حكومة شارون على قرارها هذا؟
زعمت ادارة بوش، على لسان مندوبها في مجلس الامن، ان القرار كان غير متوازن! وانه جرى التسرع في عرضه على مجلس الأمن!
أين الخلل وانعدام التوازن؟ في خلوّه - كما تذرعت - من الاشارة إلى الاعمال الارهابية ووجوب اجتثاث جذورها؟
حجة اقبح من ذنب. هذا القرار جاء ليعالج قضية جزئية عاجلة من الصراع؛ قضية التهديد الاسرائيلي بإزاحة قيادة منتخبة من شعبها، بالترحيل او بالشطب الجسدي. وبما ان ذلك يشكل سابقة خطيرة فعلى المجلس - حسبما جاء في القرار - إدانة هذا التوجه والمطالبة بالعدول عنه. وذلك من حق المجلس وواجبه، اذا اين عدم التوازن المزعوم؟ الا اذا كانت الادارة الاميركية ترى في ذلك تهديدا لنهج بدأت ترسي دعائمه وتعتزم اعتماده من الآن وصاعدا، في المنطقة وغيرها، فضلا عن انها تشارك حكومة شارون موقفها من الرئيس الفلسطيني. ولتأكيد ذلك جاء الفيتو ليعزز هذا الموقف ويعطيه شحنة تزخيم اضافي تكفل ترجمته، في اللحظة والاخراج المناسبين.
من هذه الزاوية، يشكل الفيتو نوعا من المصادقة الاميركية على الحكم الاسرائيلي ضد الرئيس الفلسطيني واعطاء الضوء الاخضر لتنفيذه وليس مجرد خطوة المراد منها زيادة الضغط على عرفات وابقاء سيف التهديد مسلطا فوق رأسه فقط. ومن المؤشرات الاولية على ان الامور دخلت طريق السير في هذا الاتجاه، ان حكومة شارون رفضت عرضا من جانب القيادة الفلسطينية لإعلان هدنة جديدة تلتزم بها كل الفصائل. ذريعتها ان مثل هذا العرض ليس سوى «لعبة» لإنقاذ عرفات وحماس! يعني انها ليست في وارد التراجع عن تهديدها واصرارها على وضعه موضع التنفيذ.
الفيتو كشف ايضا حقيقة، احاطها الكثير من الالتباس والتمويه وهي ان «خريطة الطريق» كانت من الاساس مشروعا لإنهاء المقاومة الفلسطينية والاطاحة بها، على يد السلطة الفلسطينية - إذ يتسنى عند ذاك فرض المشروع الشاروني بإقامة كيان فلسطيني غير قابل للحياة، يحمل اسم الدولة، على الورق - وعندما امتنعت السلطة عن النهوض بمثل هذا الدور، صار المطلوب الاطاحة بها هي عن طريق محاولة حصر المشكلة كلها بشخص رئيسها. تماما كما حصل في العراق: ابلسة صدام لاسقاط البلد في قبضة الاحتلال. الآن تتم ابلسة عرفات لاسقاط الانتفاضة - المقاومة، وبالتالي اغتيال القضية.
يبقى خاسر آخر من الفيتو: الامم المتحدة، التي بدت، من خلال تصويت امس، انها مازالت ارضا تحتلها ادارة بوش. وليس في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب فالمنظمة التي نجحت هذه الادارة في تعطيل وشل دورها قبل الحرب على العراق، ثم في حملها على تقبل الاحتلال - القرارين 3841 و0051 - الاميركي والتسليم به، ليس من المتوقع ان تقدر في فترة قصيرة، على استرجاع حضورها وصدقيتها ودورها المنشود. لكن ألا تقوى على تحقيق اجماع في وجه الفيتو الاميركي، وفي قضية محقة وبسيطة وواضحة كعين الشمس، يكشف وبشكل مقلق، مدى الاهتراء في المؤسسة الوحيدة القائمة والمرجعية الوحيدة على المسرح الدولي، المفترض فيها ان تكون الكابح الأمضى للانفلات الاميركي
العدد 380 - السبت 20 سبتمبر 2003م الموافق 24 رجب 1424هـ