بدأ في المنامة أمس برعاية عاهل البلاد «مؤتمر التقريب بين المذاهب» وهو خطوة تحسب للبحرين في وقت تمر فيه الأمة بأخطر حملة سياسية - ثقافية لم تشهدها منذ انتهاء «حروب الفرنجة» على بلاد الشام وما يسمى «حروب الاسترداد» في الأندلس.
الحملة الحالية أشبه بحرب «الدمار الشامل» التي لا توفر مسألة أو فكرة أو فرقة أو مجموعة. فالمعركة كلية ولا تقتصر على جماعة أو دولة أو مذهب بل هي في أساسها اجتثاثية تبدأ بالسياسة وتنتهي بالدين وتنطلق من الثقافة لتصل إلى الحضارة. والمعركة مثل كل معركة فيها الكثير من «الخداع».
الجانب السياسي من الحملة لا يلغي الجوانب الأخرى التي تريد النيل من عقيدة التوحيد وجر أهل الأمة إلى معارك جانبية تتوسط المذهبية وسيلة للفرقة والاختلاف. لذلك تحتاج الأمة إلى نوع من الوعي الذي يتجاوز حدود الاجتهادات ويعيد ترتيب الحاجات وفق سلم أولويات يضع على رأس جدول أعماله حماية العقيدة التي هي الأصل المشترك لكل المذاهب الإسلامية. فالحرب على العقيدة تعني في جانب من جوانبها السياسية النيل من كل المذاهب وما يتفرع عنها ومنها من اجتهادات فرعية. فالمقصود في النهاية ليس مذهبا بعينه وانما الإسلام برأسه. وبالتالي يصبح «التقريب» هو المنهج السليم لمواجهة الفرقة والخطر المشترك.
لماذا «التقريب» وليس «التوحيد» هو المنهج الأصح؟ ببساطة لأن التوحيد المذهبي مهمة مستحيلة ومن الصعب تحقيقه وليس مطلوبا، بينما «التقريب» فكرة منطقية وواقعية ومسألة يمكن وعيها وإدراكها إذا بحثنا في الأسس التاريخية - السياسية التي أنتجت المذاهب الإسلامية.
في الأصل «العلماء ورثة الأنبياء»، وفي الأصل أيضا الخلاف «رحمة». فالأنبياء يوّرثون العلم، والعلماء هم الورثة الشرعيون. والخلاف رحمة لانه يفتح العقل على مدارك متنوعة ولا يحجزه في دائرة ضيقة ومغلقة. فالإسلام في أصله العقائدي حث على «التدافع» وألزم المسلم باحترام عقائد غيره وشجع على التعايش و«التعارف» لأن البشر في النهاية من«نفس واحدة».
هذا هو الإسلام في جوهره، والمطلوب منا الآن ألا نتراجع عن هذا المنهج التوحيدي الذي كان له الفضل في تأسيس دورات (دول) حضارية كبرى أسهمت في حماية ثقافات من سبق، ونقلت ثقافات الشعوب من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق... وأخيرا وهذا هو الأهم أسهمت حضارات الإسلام في احتواء الحضارات السابقة وطورتها وتجاوزتها وأعطتها روحها الخاصة التي لعبت لاحقا دورها في اطلاق موجات العلم والتنوير في أوروبا.
فالمذهب لغة اشتق مفرده من ذهب أي ذهب مذهب فلان «قصد قصده وطريقته». وذهب في الدين مذهبا أي «رأى فيه رأيا»... أو بدعة. فالتهذيب هو التشذيب وإزالة الفوضى والشطط ومكافحة الخروج على الاعتدال والوسط. والتهذيب هو «هندسة الطريق». وأصل المذاهب الإسلامية بدأ تلبية لحاجات متنوعة. لذلك لم تتأسس المذاهب إلا بعد مرور مئة عام وأكثر على انطلاق الدعوة. فالتطور الزمني وابتعاد الأجيال المسلمة عن الجيل الأول (المؤسس) فرض على الفقهاء والقضاة والأئمة والعلماء (ورثة الأنبياء) البحث والشرح والتفسير والتأويل وابداء الرأي. فالمدارس الإسلامية (المذاهب لاحقا) جاءت ردا على أسئلة وأجوبة زمنية عن أسئلة الحاضر (حاضر العلماء) ولذلك لم تتفق على رأي واحد. فنشأ الاختلاف في الاجتهاد... والاختلاف في معناه الأصولي (السلفي) رحمة. فالأصل هو التعدد... والرأي الواحد هو الاستبداد بعينه. والاستبداد ضد حرية الإنسان وحقه في التفكير المستقل. وكل من يعارض أو يعترض الحرية والعقل والاستقلال يعارض الاسلام في جوهره العقائدي. فالإسلام وحد الله أولا وعمد لاحقا إلى توحيد الإنسان انطلاقا من مبدأ «التقوى» فأخرجه من عبودية الأصنام والمال والجاه إلى عبودية الله عز وجل. فالإنسان عبد الله فقط. وفي هذا المعنى فإن الإسلام في أصله العقدي هو رسالة الحرية إلى الإنسانية. والأمة الإسلامية «مؤتمنة» على تراث الإنسانية كلها.
الاعتراف بالاختلاف مسألة شرعية. فالاختلاف رحمة... أما الشقاق والنفاق فهو الآفة التي منعت التقارب والتقريب وضربت الأمة في روحها. ولولا الكتاب الواحد لكان الإسلام مئة أمة تتضارب في ألف مذهب.
«مؤتمر التقريب» مناسبة للتفكير لا التوحيد. فالوحدة موجودة في الكتاب الواحد وبقي على المذاهب الإسلامية أن تتقارب لأن التقارب يزيد من «التعارف». وهذا أضعف الإيمان.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 380 - السبت 20 سبتمبر 2003م الموافق 24 رجب 1424هـ