تظهر بين الفترة والأخرى في الحلبة السياسية بعض المصطلحات الملتبسة ويتداولها الساسة على اختلاف انتماءاتهم، بما في ذلك الحكومة وتوابعها، حتى وإن كانت تلك المصطلحات لا معنى محدداً لها. ففي أواخر ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ساد في بعض الدول العربية، وبالذات التي تتلقى تمويلاً ضخماً من الغرب، مصطلح التمويل، وكان يعني بالتحديد التمويل الأجنبي لمنظمات غير حكومية، مع أنه لم يكن هناك حديث مماثل عن التمويل الذي تتلقاه الحكومات ذاتها.
دفعت الحكومات بقوة في تحويل مصطلح بريء كـ»التمويل» إلى مصطلح مشبوه، وكان السبب هو خروج بعض تشكيلات المجتمع الأهلي عن سيطرتها. وأسماء ضحايا تلك الحملة معروفة.
بالطبع هذا لا يعني أن تلك المنظمات لم ترتكب أخطاء، ولم يخلُ بعضها من ممارسات فاسدة، إلا أن الحملة في جوهرها كانت سياسيةً بامتياز، فقد كانت باختصار، صراعاً بين السلطة المركزية والمجتمع المدني الذي بدأ يشبّ عن الطوق، وبالتالي يشكّل تهديداً لتلك السلطة. وعادةً ما ينعكس ذلك الصراع على القوانين المتشددة ضد المجتمع مثل ما يجري في روسيا هذه الأيام.
ينطبق الأمر ذاته، وإن بمنظورٍ مختلف، على مصطلح التدويل، فالمصطلح ذاته اختفى، أو كاد، عن الاستخدام، فعندما عملنا، ومازلنا، لإغلاق معتقل غوانتنامو، أو مجمل السياسات الأميركية ضد «الإرهاب» كقانون «باتريوت»، سواءً كمنظومة دولية غير حكومية تطوعية أو خبراء مستقلين أو العفو الدولية أو الووتش أو الدولية للحقوقيين أو ريبريف أو غيرها، فإن العمل كان يتم داخل أميركا وخارج أميركا، مع منظمات وأفراد أميركان وغير أميركان، ولم يحدث في حيثيات ذلك النشاط الناقد بحدةٍ لسلوكيات السلطة الأميركية، وخلال لقاءات متعددة مع مسئولين أميركان، أن احتجّ أحدهم بأن ذلك يمثّل تدويلاً لشأن وطني أميركي، أو أنه يمثل تدخلاً في الشئون الداخلية، أو أنه يمثل انتهاكاً للسيادة الوطنية. إلا أن هناك دولاً تصر أن تعيش في منطق وذهنية «الحرب الباردة»، ومازالت تتعامل مع مناقشة قضايا حقوقية في الخارج، على أنها تدويل.
ولحسن الحظ فإن منطق تلك الدول إلى انقراض، وبالذات منذ يونيو/حزيران 2006، مع إنشاء مجلس حقوق الإنسان والمراجعة الدورية الشاملة. ولذا نجد أن منطق اعتبار التدويل للقضايا الإنسانية خروجاً عن الملة، أو أنه انتهاك للسيادة أو أنه تدخل في الشئون الداخلية، هو منطق قديم تجاوزه الزمن، ولذا وجدنا المصطلح في طريقه للانقراض، وحل محله تعاون دولي، ومجتمع مدني فاعل، وحيث إن الحديث ذو شجون، فله بقية.
إقرأ أيضا لـ "غانم النجار"العدد 3796 - الأحد 27 يناير 2013م الموافق 15 ربيع الاول 1434هـ