أتحدث عن دبلوماسيتنا العامة في منطقة تتسم بأهمية حاسمة بالنسبة للشعب الأميركي. ولا توجد منطقة في العالم تتطلب مثل هذا الانخراط الأميركي المُلّح أكثر من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والسبب بسيط؛ فالانخراط الأميركي في الشرق الأوسط مفيد بالنسبة إلى أميركا والمنطقة. فحينما تكون أكثر استقراراً وديمقراطيةً ورخاءً؛ فإنها تعزز الأمن والرخاء للجميع. وهذا يعني فرصاً اقتصادية أكثر للشباب، ورواد الأعمال والشركات، كما تفتح أبواب الفرص لتعميق الروابط الشخصية والتحالفات الاستراتيجية مع جميع بلدان المنطقة.
إذاً، كيف يمكننا الانخراط بالكامل، والأهم، كيف نزيد من حظوظنا في النجاح كي يستفيد الشعب الأميركي وشعوب المنطقة من التغيرات الحالية التي تجتاح المنطقة؟ إنها كلمتان: الدبلوماسية العامة. وتتضمن الدبلوماسية العامة عدداً كبيراً من العناصر التي يعزّز كل منها الآخر، وتشمل إيصال وشرح السياسات والقيم الأميركية، وتعزيز الانتقال الديمقراطي، ودعم ريادة الأعمال والصادرات الأميركية، وتسهيل المبادلات التعليمية وتعزيز التعليم العالي في أميركا. كما تلبي أحد مبادئ الوزيرة كلينتون للدبلوماسية والتنمية، التي تشدّد على الأهمية الحاسمة للتواصل مع الجماهير غير الحكومية وغير التقليدية. واستخدام هذا الانخراط العميق والمُعقد، في هذه المنطقة المعقدة والمتحركة والمتقلبة بسرعة؛ يوجب علينا مضاعفة جهودنا. فقبل سنتين نبّهت الوزيرة كلينتون في الدوحة، إلى أن أسس المنطقة كانت «تغرق في الرمال». منذ ذلك الحين، وفي مختلف بلدان المنطقة، شاهدنا المتظاهرين ينزلون إلى الشوارع ويستخدمون الانترنت. وشاهدنا دكتاتوريات طال وجودها تتهاوى، وانتخابات تنافسية وحرة، ونواحي أخرى من الانتقال الديمقراطي، وبصورة مأساوية، نزاعاً دمويّاً في سورية والنظام يهاجم مواطنيه.
هذه القصة الإنسانية التي سرعان ما عُرفت بـ «الربيع العربي»، لاتزال فصولها تتبلور، أما السرعة التي تكشفت ولاتزال، فلا يجوز أن تصرف انتباهنا عن تقدير الوتيرة المتأنية التي يتطلبها التقدم الديمقراطي. فنحن كأميركيين، ندرك تماماً تاريخنا، ونعرف أن الثورات قادرة على إنهاء السلطة، لكن التغيير المستدام لا يحدث بين ليلة وضحاها. لقد استغرق تطوير دستورنا والمصادقة عليه والتطور المتواصل عليه 237 عاماً. فعلينا أن ننظر إلى المنطقة مع إحساس رزين بما يعنيه التاريخ، وبقسطٍ وافرٍ من التواضع، وبتقديرٍ صبورٍ للآلام المترافقة مع نمو الديمقراطية.
تدرك دبلوماسيتنا العامة هذه الديناميكية والتحديات التي تنطوي عليها، ووضع سياستنا الخارجية ضمن سياقها الصحيح عن طريق الانخراط مع الجماهير الأجنبية. إننا نعرف أن التغيير الإيجابي والمستدام في هذه المنطقة سيأتي نتيجة العمل الشاق والمُنسّق من جانب المواطنين، والقيادات السياسية، والمنظمات غير الحكومية، والشركاء الآخرين الذين يكرسّون جهودهم في سبيل قيام مجتمعات تعددية وشاملة. هذا الفهم للتقدم هو سبب حاجتنا إلى معايرة دبلوماسيتنا العامة لكي تتناسب مع المدى القصير والمتوسط والطويل.
ولإعطاء صورة عما أعنيه، أود العودة إلى حدث نعرفه جميعاً، فيلم فيديو رخيص وبغيض نشر على الانترنت دون أن يلاحظه أحد لفترة من الوقت، ثم ظهر فجأةً ليثير موجة من الغضب والعنف. وبفضل طبيعة عالمنا البالغ الترابط، بدأ هذا الشريط يتفشى كفيروس في أجزاء عديدة من العالم، وخصوصاً في البلدان ذات الغالبية المسلمة. واستهدف المتظاهرون في بعض تلك البلدان بعثاتنا الدبلوماسية، عِلماً بأنه لم تكن لدينا أية علاقة لا بمنتج الفيلم ولا بالفيلم نفسه. وهبّ دبلوماسيونا على الفور، لتقديم رد أميركي على الفيلم وعلى العنف الذي أثاره. وانتشر موظفونا في المنطقة، متصلين بوسائل الإعلام وبالمسئولين وأصحاب النفوذ الأساسيين لنوضح أن الحكومة الأميركية لم تكن لها أية علاقة بالشريط، وللتشديد في الوقت نفسه على أهمية حرية التعبير. فشدّدنا على أننا لا نقبل بمحتوى هذه الرسالة، بل في الحقيقة إننا نحتقرها، لكننا دافعنا عن حق منتج الفيلم في الإعراب عن رأيه.
وشدّدنا انخراطنا في المدى القصير على قيمة أساسية بالنسبة للولايات المتحدة، وهي حرية الكلام والتعبير، وهي قيمة مركزية أيضاً في جهود دبلوماسيتنا العامة على المديين المتوسط والطويل. واستخدمنا أيضاً الوسائل الاجتماعية التي باتت أداة رئيسية في القرن الواحد والعشرين في مجموع أدوات دبلوماسيتنا العامة، لنضمن انتشار رسالتنا بسرعة وعلى نطاق واسع. استخدمنا الفيسبوك وتويتر ويوتيوب والدردشة على شبكة الإنترنت... لمواجهة الغضب بصورة مباشرة.
لقد ربطت دردشة واحدة على الإنترنت المسئولين في الخارجية مع مئات الشباب من بلدان المنطقة، موفرة لنا فرصة تبديد خرافات واسعة الانتشار ومفاهيم خاطئة عن التعصّب الأميركي المزعوم. وتمكنا أيضاً من إعطاء صورة عن أميركا الحقيقية، بصفتنا مجتمعاً متسامحاً، ومُتعدد الإثنيات والأديان.
كان ذلك الوقت صعباً للتمكن من بث مثل هذه الرسالة ذات المعاني الحساسة، لكننا واصلنا إبراز وجهات نظرنا، وكان أحد الأمثلة برنامج القادة الدوليين الزوار. هذا البرنامج الرئيسي للمبادلات يدعو الصحافيين والأطباء ومناصري المساواة بين الجنسين، والفنانين والمهندسين ومخططي المدن وغيرهم، للمجيء إلى أميركا لبناء مهارات مهنية قيّمة، ولمساعدتهم على إقامة اتصالات مع نظرائهم الأميركيين. وخلال عملهم هذا، يكتسب المشاركون فهماً أفضل، وأكثر حساسية ودقة لثقافة المجتمع الأميركي وقيمه.
زارت مؤخراً إحدى المجموعات العديدة التي تمثل المنطقة، وزارة الخارجية ضمن برنامج تبادل الصحافيين، وسألنا أحدهم: «لماذا تسمحون لأي أحد التهجم على دينكم، أو على أي دين آخر؟ لماذا يعتبر حق إهانة الناس إحدى القيم الأميركية»؟ وكان جوابنا أن إهانة الناس ليست من القيم الأميركية، وهو ما أكده خطاب الرئيس أوباما أمام الأمم المتحدة: «السلاح الأقوى ضد خطاب الكراهية ليس القمع، بل مزيد من الخطاب». وكان هذا درساً قاسياً للصحافي ولِكل من يعتقد أن على الحكومات فرض آرائها الخاصة بالنسبة إلى ما تعتبره الخطاب المناسب. لكننا لن ولا يجوز أبداً أن نتراجع عن دعم هذا الحق والدفاع عنه في بلدنا وفي الخارج.
وفي الوقت الذي ننخرط فيه مع سكان الشرق الأوسط، علينا دائماً أن نوضح قيمنا ومبادئنا، لكي نتمكن بالتالي من العمل من أجل توفير تفهم أكبر للجميع. وبالطبع، فإن الطريقة المرغوبة أكثر للحدّ من حاجتنا إلى إطفاء الحرائق، وتصحيح سوء الفهم، هو فتح أبواب الثقة وطرق الرفاهية قبل حدوثها.
لهذا السبب، تركز دبلوماسيتنا العامة على الشباب، فهم القوة الأساسية خلف الربيع العربي، وهم عناصر تغيير مستقبل المنطقة. إنهم القيادات الناشئة والمبدعون الذين يستطيعون قيادة بلدانهم واقتصاداتهم نحو الإنتاجية والفهم العالمي الأكبر.
من الصحيح أيضاً أنهم معرّضون لدعاة الأيديولوجيات المتطرفة العنيفة الذين يستخدمون رسائل مزيفة لتجنيدهم في صفوف الإرهاب. لهذا طوّرنا من خلال مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب مقاربة متعددة لزرع الشكوك حول المتطرفين في أرجاء العالم في نفوس المستهدفين من جانب العاملين على تجنيد الشباب في صفوف الإرهابيين. فبدءًا من الانخراط الرقمي باللغات العربية والصومالية والأردية، التي تتضمن استخداماً واسعاً لأفلام الفيديو على الانترنت، إلى الاستراتيجيات الخلاقة التي تطول الجماهير على الأرض في بلدانها، نقوم بمواجهة حيز الاتصالات الذي تستخدمه القاعدة ومؤيدوها. ومن خلال مواجهتنا لهم بأسلحة بسيطة قوامها الحقيقة؛ نعمل على محاربة الأكاذيب والتأثير على العقول. والواقع أن القاعدة والتابعين لها يحذرون أتباعهم من ضرورة عدم الإصغاء إلى رسائل مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب، وهو تقديرٌ مشرّفٌ لنا.
من الضروري أيضاً أن نقدّم خيارات مستقبلية للفرص التعليمية والاقتصادية، وإحدى أكثر الطرق فعالية هي عبر تعليم اللغة الانجليزية. فقد باتت لغة المال والأعمال والعلوم والدبلوماسية والمصارف والقانون الدولي. وهي تمكّن الشباب أيضاً من الدراسة في الولايات المتحدة والوصول للتدريب الذي سيزيد إلى أقصى حد من إمكاناتهم لأجل مستقبل أكثر رخاء.
أحد هذه الأمثلة في المنطقة هو برنامج المنح الدراسية الصغيرة لتعليم الإنجليزية الذي بدأ العمل به في المغرب العام 2003 والتحق به 17 طالباً. كنا نستهدف الطلاب من الفئات المحرومة، الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و20 عاماً، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومنذ ذلك الحين، كان نمو البرنامج مدهشا، إذ يستفيد منه الآن 18 ألف طالب وطالبة، وتخرج فيه أكثر من 80 ألف طالب في 85 بلداً حول العالم. لقد وسع موظفونا الميدانيون في الدبلوماسية العامة هذا النوع من تعليم الانجليزية ليشمل الصحافيين والمعلمين ورواد الأعمال والقادة الدينيين وأصحاب النفوذ الرئيسيين بالمنطقة.
إن توفير الفرص لبناء رواد الأعمال في المنطقة مهم أيضاً. فمن خلال برنامجنا التكنولوجي للنساء، مثلاً، أحضرنا سيدات سعوديات إلى «سيليكون فالي» حيث انخرطن مباشرة مع بعض أنجح رواد الأعمال في بلادنا. فكروا بالرسائل حول المساواة بين الجنسين وفرص الأعمال التي تبعثها الرسالة إلى هؤلاء النسوة.
لقد طوّرنا، بالشراكة مع شركة «كوكاكولا» وجامعة إنديانا، برنامج تعليم لريادة الأعمال مدته شهر واحد جاء بمئة قائد شاب من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للولايات المتحدة الصيف الماضي. واستفدنا من الأصول والوصول العالمي لشركة أميركية كبرى وربطنا الكلية ومجتمع الأعمال والمجتمع الأهلي في إنديانا مع القيادات الناشئة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد عاد هؤلاء القادة إلى بلدانهم مُمكّنين حديثاً لكي يصبحوا شركاءنا المحتملين في الأعمال والتجارة. وطبعاً، من المهم أن تعمل دبلوماسيتنا العامة لمصلحة الناس من كل الأعمار وفي مختلف القطاعات.
إن دعم المجتمع المدني مركزي بالنسبة لنا، ومنذ بداية الربيع العربي، دعمنا الأعداد المتنامية لنشطاء المجتمع المدني في البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية، وقد فعلنا ذلك أولاً عبر مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية. ففي مصر مثلاً، دعمت المبادرة التدريب لأكثر من 1500 عضو في منظمات غير حكومية وناشط من خلال 50 ورشة عمل عن استخدام الوسائل الاجتماعية لتطوير الدفاع عن القضايا والاتصال بالجماهير، وتشاركت المبادرة أيضاً مع ميكروسوفت لإتاحة الوصول مجاناً إلى الانترنت اللاسلكي، وقدمت التدريب لليبيين في المجتمعات الريفية والمهمشة.
إننا نعرف أن الوصول للانترنت هو أمر مركزي بالنسبة للدبلوماسية العامة، سواءً استخدمنا «تويتر» للتعبير عن مواساتنا للأرواح المفقودة في هجمات إرهابية، أو «الفيسبوك» لنشر الوعي عن فرص الدراسة في الولايات المتحدة، أو إشراك الناس في مواضيع تهمنا مثل تغيّر المناخ والديمقراطية وحقوق الإنسان.
إننا نتواصل مع الناس، ومن المهم فتح هذه المحادثات في بلد (كمصر) يعيش مرحلة من التحول إلى الديمقراطية حافلة بالتحديات ويشهد بصورة متواصلة وجهات نظر متبدّلة حول الولايات المتحدة. ووسائل التواصل الاجتماعي مفيدة بنوع خاص عندما لا يكون لنا حضور مادي. ففي إيران، احتفلنا بالذكرى السنوية الأولى لموقع سفارتنا الافتراضية في طهران على الانترنت، وبمنصات على الشبكات الاجتماعية باللغة الفارسية التي تتضمن الفيسبوك وغوغل بلوس وتويتر وقناة يوتيوب.
تلقي هذه المنتديات والمحافل الأضواء على التزامنا بالفرص التعليمية، وحرية التعبير، والدفاع عن الحريات المدنية، وإعطاء صوت للشعب الإيراني. وفي عملنا هذا، يمكننا أن نحارب الصورة السلبية التي يروّج لها النظام عن السياسة الأميركية ونخلق النقاش والحوار داخل إيران بغية عزل المتطرفين والمتشددين، وزرع بذور التغيير الديمقراطي.
وبالطبع، فإن سورية موجودة كثيراً في ذهن كل إنسان لأن أعداداً متزايدة من الناس تعاني على يد نظام الأسد. وكانت الشبكات الاجتماعية أداة فعالة لمواصلة ارتباطنا المباشر بالشعب السوري، ويتصل سفيرنا لدى سورية بصورة منتظمة بالسوريين عبر موقعنا على الانترنت والفيسبوك، وفي اجتماعات مباشرة مع السوريين المتواجدين حاليّاً خارج سورية.
يزور موقع سفارتنا 15 ألف زائر في الشهر و11 ألف متابع على الفيسبوك، وهذه هي الوسائل التي نقدم عبرها المعلومات عن جهودنا لمساعدة سورية، ويستطيع الرئيس أوباما والوزيرة كلينتون عبرها توجيه الرسائل مباشرة للشعب السوري.
إننا نفتخر بأن مجموعة من الكليات والجامعات الأميركية تعمل لإنشاء منح دراسية للطلاب السوريين الذين لم يعد باستطاعتهم إكمال شهاداتهم داخل سورية. ونحن نتطلع إلى إعادة العمل بجميع برامج التبادل التعليمية والثقافية والمهنية مع السلطات الانتقالية بعد سقوط النظام.
وكما يوضح لنا الوضع في سورية وفي بلدان أخرى؛ فقد بات الأمن يشكل هاجساً خطيراً بالنسبة للعديد من السفارات في المنطقة. لذلك نقوم دائماً بتقدير وإعادة تقدير التوازن بين حاجتنا إلى الانخراط وسلامة دبلوماسيينا. لكننا نعتبر الانخراط الكامل أساسياً لمصلحتنا القومية، وأياً تكن التحديات، بإمكاننا بل وعلينا مواصلة الانخراط.
يمكننا ويتعين علينا مواصلة العمل لنكون أكثر مهارة في اتصالاتنا، وأكثر فطنة في دفاعنا عن السياسة الأميركية، لنتمكن من الدفاع بشكل أقوى عن قيمنا ومثلنا العليا الأميركية، ليساهم العمل الذي نقوم به في سلامة وأمن ورخاء أكبر في بلدنا وفي الخارج.
إقرأ أيضا لـ "تارا سونشاين"العدد 3794 - الجمعة 25 يناير 2013م الموافق 13 ربيع الاول 1434هـ