«المثقف هو من يكدح ذهنيا ليعطي المجتمع نتاج عقله» هذه مقولة للرئيس عبدالناصر، ويدور محور حديثي حولها، أي عن نتاج المثقفين وكدحهم الذهني ومردودهم على مجتمعاتهم وعلى التنمية الثقافية والسياسية والنهضة الاجتماعية والوعي العام المجتمعي.
ويتبادر الى الذهن سؤال يجر وراءه سؤالا وتوضيحا يتطلب بعده توضيحا. وهو: هل المثقف عندنا هو من يكدح ذهنيا؟ أم هو من يُكدح عنه ذهنيا؟! وإذا ما كدح ذهنيا فما نتاج عقله الذي يفرزه هذا الكدح الذهني؟ هل هو تبرير وتسويق قرارات سلطة ومحاولة تمريرها على عقول القراء التي يعتبرها هذا المثقف مسطحة ولا توجد بها نتوءات، وإنها تفهم وتستوعب ما يحاول هذا المثقف ان يروجه في ذلك العمود او تلك الزاوية أو المقال!
وعند ذلك الحد يقف المرء حائرا أمام طابور المتملقين والوصوليين والانتهازيين متحيني الفرص، الذين يأكلون اللحم الحرام، هبرة بعد هبرة، كل ذلك تقطيعا من مائدة الفقراء في اصقاع البلاد. إن المثقفين الذين يدندنون للقرارات الفوقية، ينظر إليهم المواطن البسيط بنظرات تتعدى عقليتهم السطحية في ترويج الباطل وتلميع صوره، هذا الباطل الذي ينخر في أوصال المجتمع، الباطل بكل ما فيه من سياسات خاطئة وقرارات تحمل نكهة الفساد الاداري والمالي والأخلاقي! ويقوم هؤلاء الكتاب أو ما يطلق عليهم مثقفي السلطة بالتفنن في تزيين الباطل للناس كلما جد جديد في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو في تفسير إحدى الظواهر الاجتماعية.
وفي كل زمان نجد هؤلاء «مثقفي السلطة» أو «الطبقة المحيطة بالفئة الحاكمة المستبدة» تكافح من أجل استقرار الاوضاع على ما هي عليه حماية لمصالحهم الشخصية المرتبطة بمصالح ارباب الحكم والنفوذ، متخذة تلك الطبقة أو الفئة المحيطة من إبليس اللعين مثلها الأعلى «وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل» (النمل: 42)، وهذه الطبقة المحيطة لا تنمو وتترعرع إلا في بيئات غير شرعية (البيئات الدكتاتورية ذات الانظمة الشمولية أو الأنظمة الاستبدادية... إلخ) وبحكم عدم شرعيتها فإنها تحتاج إلى من يبرر وجودها على رأس الهرم في الدولة وتشديد وطأتها المتعاظمة على الشعب ومقدرات الأمة، فتستخدم هؤلاء المثقفين «موظفين ايديولوجيين». وهؤلاء ما هم إلا أداة يتم التخلص منها واستبدالها بغيرها متى ما فقدت صلاحيتها، ومتى ما تحولت الرياح عنها.
ومع وجود هذا الفريق كان هناك فريق آخر من الذين «صدقوا ما عاهدوا الله عليه» (الأحزاب: 32)، وكان هذا الفريق يلاقي شتى صنوف المكاره والمحن والبلايا فما برحوا عملهم المتفاني نظير التماس الأجر والثواب من المولى عز وجل الذي يعلم بسرائر النفوس أما أدعياء الثقافة فقد سقطت الأقنعة وتهاوت ورقة التوت وانكشفت سوءاتهم، وسقط قناع الزيف والدجل في اول امتحان حقيقي للكرامة الصحافية والامانة المهنية لهذه الصنعة، بعد إفساح المجال للكتاب وإعطائهم قدرا من مساحة الحرية.
إن تشكيل رأي عام أو بلورة فكرة عن قضية من القضايا التي تمس المواطنين وحقوقهم الواجبة الاستحقاق، حقوق الحرية واستحقاقاتها، حقوق المواطن في العيش بكامل كرامته من غير انتقاص، وحفظ حقوقه والتزام مؤسسات الدولة بتأدية خدماتها كاملة للمواطن والوطن، كل ذلك يحتاج إلى صوغ لعقلية المواطن لكي يستوعب تلك المفاهيم: ( الديمقراطية، حقوق الانسان، كحق العمل بكرامة وحقوق الحرية بكامل شموليتها من حرية معتقد ورأي وفكر، والعدالة الاجتماعية بين المواطنين) كل تلك المفاهيم. هل يصوغها «مثقفو السلطة» و«الطبقات المحيطة»؟
دأب قوم من هؤلاء المطبلين من «مثقفي السلطة» على ممارسة عمليات التضليل الإعلامي والصحافي منه تحديدا وهم بذلك يمارسون مهنتهم بالريموت كونترول وفي بعض الاحيان اكثر دقة منه، بل ويسبقون لمسة الزر من الموجه!
إن هؤلاء المزيفين للوقائع والمبررين للفظائع المتسترين على الفضائح، ما هم إلا أناس نزعت الرحمة من قلوبهم وأصبحت خاوية على عروشها مرئياتهم ومنطلقاتهم، تلك المنطلقات التي كانت رائجة في زمن الكبت والمصادرة، وإن كانت لهؤلاء اليوم من بقية باقية فإنها هي رماد نار أوقدوها. إن المثقف الحقيقي المتمتع بكرامته لا يقبل ان يكون للظالمين عضدا ولا يتخذ المضلين سلما للوصول إلى مآربه الخاصة، ومهما قست الظروف لا يقدم تنازلات عن الحق الذي هو في الأساس ملكا للشعب الذي يعيش هذا المثقف بين أفراده، وهذا الحق ايضا ملك للوطن الذي ارتعى بين جنباته.
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 379 - الجمعة 19 سبتمبر 2003م الموافق 23 رجب 1424هـ