يثير صعود الاتجاهات الإسلامية ذات التوجه السياسي العديد من التساؤلات حول الدولة المدنية والنظام السياسي والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتتنوع الإجابات وفقاً للمدرسة الفكرية التي ينتمي إليها الكاتب السياسي أو الناشط الحركي في السياسة أو في الحركة الدينية، ولكن الاتجاه الأقرب للدقة هو اتجاه الباحث الأكاديمي أو المفكر الموضوعي الذي يحلل الظواهر بما يقرب من الحياد النسبي، بغض النظر عن اتجاهه الفكري أو نظرته السياسية أو انتمائه الديني، وهذا ما يقتضيه البحث العلمي.
وهذا التوجه المنهجي هو ما سوف نتبعه في هذا التحليل لفكر المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري الذي قدّم نقلةً نوعيةً في منهجه البحثي، وسعى لتقديم مشروع فكري يحلّل فيه الظواهر الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة العربية والحضارة الإسلامية عبر العصور الماضية، ويتطلع لتقديم مشروع تستفيد منه الأجيال القادمة، وهذه هي مهمة المفكر الذي ينير السبيل للسياسي، ليساعده على اتخاذ القرار السليم في ظل المعطيات الأساسية التي تمر بها المجتمعات، وكذلك يقدّم زاداً فكرياً للأجيال الجديدة التي لم تعش حياتياً أو فكرياً مرحلة حضارة العرب والمسلمين في أوجها، عندما كانت منفتحةً على التيارات الفكرية العالمية من حضارات مصر واليونان والفرس والروم والهند والصين... تلك الحضارات التليدة التي خلفت وراءها تراثاً فكرياً عميقاً مازال الكثير من المفكرين ينهلون منه حتى يومنا هذا.
كما أن بعض هذه الأجيال الجديدة لم تعرف مناهج التحليل العلمي السليم وتربت وأينعت في ظل الوجبات السريعة من الطعام لغذاء الجسد، والوجبات السريعة من الفكر لغذاء العقل، ومن ثم وقع بعضها في التبسيط المخل أو الكتابة السطحية التي لا تتعمق في دراسة الظواهر وتحليل المعطيات واختبار الافتراضات والتوصل إلى نتائج تعبّر عن الحقائق الموضوعية وليس عن الأهواء والأمزجة والميول الإيديولوجية التي كثيراً ما تفسر الظواهر بما يخدم إيديولوجياتها، وترى الألوان ليس على حقيقتها وإنما كما تصوّرها إيديولوجياتها.
من هنا نجد فكر محمد جابر الأنصاري يمثل غذاءً فكرياً ضرورياً لمن يريد فهم جذور القضايا ويتعمق في التحليل للمجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وفقاً للتسمية الحديثة. ونتيجة للوجبات المعلوماتية السريعة يحدث خلط وتشويه للمفاهيم، فإذا سألت باحثاً أو كاتباً يكتب في موضوع مثل العلمانية أو الليبرالية أو النظام الديني في الإسلام أو المذاهب الإسلامية الكبرى، أو الفلسفات العالمية المشهورة: كم كتاباً قرأ في موضوعه؟ أو هل رجع إلى مراجع أصلية، تكون الإجابة في معظم الحالات أنه لم يقرأ وإنّما سمع ما قاله الكاتب فلان أو الواعظ علان.
وهكذا معلومات مرسلة وغير موثقة وغير مدققة، تقع العديد من الأخطاء وتحدث التصورات غير السليمة تجاه الكثير من القضايا والأفكار، ويختلط الحابل بالنابل، وتضيع الكثير من الحقائق.
ونحاول في هذه الدراسة عن فكر الأنصاري، إزالة بعض ما غمض من مفاهيم وتجلية ما التبس من الحقائق قدر الإمكان، وفوق كل ذي علم عليم.
بادئ ذي بدء، لابد من الإشارة إلى أن الاقتراب من ظاهرة بالغة التعقيد والحساسية مثل ظاهرة فكر الأنصاري والدولة المدنية أمر ليس سهلاً، وإنما ينطوي على قدر من المغامرة، ويحتاج لقدر من الدقة في تحديد المفاهيم المرتبطة بها، ألا وهي «موقف الأنصاري من مفهوم الدولة المدنية».
ويرجع تعقيد الظاهرة إلى تداخل ثلاثة عناصر رئيسة هي: الأول، «دراسات الشخصية» وهي مسألة صعبة، فالإنسان حقيقة مركبة من مشاعر وأحاسيس، ومن عقلانية ولا عقلانية، وفكر واضح وآخر مستتر، ونوايا معلنة وغير معلنة، وواقع اجتماعي واقتصادي وسياسي، وظروف ترتبط بالمجتمع ومراحل تطوره وأخرى ترتبط بالمؤثرات الخارجية المحيطة بالفرد، والثاني «دراسة الدولة المدنية» وهي مفهوم جديد لم يتفق على توصيف محدد له، والثالث «عملية الخلط والتشويه» المرتبطة بمفهوم الدولة المدنية ومدى علاقتها بالمفهوم العلماني أو المفهوم الديني.
لقد عرف التاريخ السياسي الدولة الدينية أو لأكثر دقة، النظام السياسي المستند للدين في العصور القديمة والوسطى، ومايزال بعض تجليات ذلك قائماً في العصور الحديثة، وعرف النظام العلماني للدولة Secularism بالإنجليزية مصطلح Laique بالفرنسية بعد انفصال النظام السياسي للدولة عن الكنيسة، وبعد حرب دامية استمرت 30 عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتهت بمعاهدة «وستفاليا» العام 1648. وأطلق على تلك الدولة في تطورها الجديد، أو بالأحرى على النظام السياسي مصطلح العلمانية، وهو مصطلح يعني عدم تدخل النظام السياسي للدولة في الدين، أو بتعبير أدق حياده إزاء المسائل الدينية، وبالمثل عدم تدخل الدين في الأمور السياسية.
وباختصار يمكن القول إن النظام السياسي العلماني بهذا المعنى ليس ضد مفهوم الدين، وليس معادياً له، وليس حامياً له، إنه محايد تماماً وإن كانت بعض الاتجاهات الفكرية المتطرفة ربطت بين العلمانية والإباحية والإلحاد والحرية المطلقة في كل شيء، بما في ذلك الخروج عن الدولة كما في النظريات الفوضوية.
السؤالان اللذان نطرحهما في المنطقة العربية بوجه خاص، وفي الدول الإسلامية بوجه عام يتمثلان في: 1 - ما هو موقف الإسلام من مفهوم النظام المدني للدولة؟ وبناءً عليه ما هو رد فعل المسلمين إزاء ذلك؟
2 - ما هو موقف مفكر عربي بارز هو الأنصاري من ذلك؟ وما مدى تعبيره عن نظام الدولة المدنية، وما هي مقوماتها أو عناصرها لديه؟ وقبل الإجابة على السؤالين السابقين نقدّم تعريفاً للمفاهيم الأساسية، ومن ثم سينقسم البحث إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: التعريف بالمصطلحات الرئيسة، الإسلام ونظام الدولة المدنية، ونظام الدولة المدنية في كتابات الأنصاري.
التعريف بالمصطلحات الرئيسة
الدولة الدينية أو بالأدق النظام السياسي القائم على المفهوم الديني للدولة، هو النظام الذي يستند إلى مرجعية دينية، أي مرجعية من غير البشر، وهذه المرجعية لها قدسية خاصة، ولكن المعضلة هنا هو إن المصدر الديني وهو «الله» سبحانه وتعالى، لا وسيلة للتحاور المباشر معه، أو الوصول إلى تفاهم حول ما يريده، وما يقرّه وما يوافق عليه، وما هو مضمون ومدى إرادته الإلهية. لأن الله سبحانه وتعالى هو ما وراء الإدراك الحسي للبشر، وإرادته وقدرته وعلمه غير معروف للبشر لأنه كما وصف نفسه تعالى «عالم الغيب والشهادة».
وقد تبلورت ثلاث وسائل للتعرف على هذه الإرادة الإلهية وهي:
الأولى: مفهوم الخلق والإبداع الكوني: ويعتمد هذا المفهوم على إنه إذا كان من البديهيات أن لكل شيء خالقاً أو مبدعاً أو صانعاً، فلابد أن يكون للكون إله خالق، ومن هنا اعتبرت هذه البديهية هي الوسيلة الرئيسة والمعبّرة بوضوح عن وجود كائن ما أعلى من مستوى البشر، هو خالقهم، كما توصلت لذلك الأديان السماوية، أو هو الكائن الأعلى Supreme Being أو العقل الكلي، أو غير ذلك من المصطلحات التي عرفت في مختلف المدارس الفلسفية عبر العصور.
الثانية: ظاهرة الرسل أو الأنبياء الذين اختارهم الله للتعبير عن إرادته وتوجيهاته عبر العصور، وأوحى إليهم بطرق غير مباشرة، وأيّدهم في تصرفاتهم أو صحّحها لهم، إذا لم تكن تعبّر عن إرادته الحقيقية، ومن ثم جعلهم نموذجاً مثالياً للبشر للاقتداء بهم، وعادةً يأتي الوحي هذا بطرق غير مباشرة، وأكثرها هو عن طريق الملائكة، وفي الكتب السماوية فإن جبريل هو رسول الوحي.
الثالثة: هو الإلهام الذي يقذف في قلب الإنسان، عندما يصل إلى مرحلة من السمو والصفاء الروحي ويتسامى على العالم الدنيوي Transcendence ويصل لمرحة الاستنارة Enlightenment كما حدث مع بوذا مؤسس الديانة البوذية على سبيل المثال، ومعظم الأديان غير السماوية مثل الطاوية والهندوسية وغيرها تأخذ بهذه الوسيلة، بل إن الفلسفة الصوفية استندت إلى ذلك بدرجة كبيرة.
ويرتبط بمفهوم الرسل ثلاثة أمور:
الأول: إنه مفهوم محوري يتعلق بالإيمان بالغيب، أي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بما فيه من ثواب وعقاب أو جنة ونار، وكذلك المخلوقات غير البشرية مثل الجن والشياطين، وهي كائناتٌ لا يمكن لمسها أو رؤيتها لاختلاف طبيعتها عن طبيعة البشر، وكذلك الكائنات الأخرى التي تعيش في الكون المادي مثل الحيوانات والطيور وما شابهها، بالإضافة للجماد والسموات والأرض والجبال وما على شاكلتها.
الثاني: وجود كتاب مقدس يوحى به من الله بطرق عديدة ويتم تدوينه، ويعد هو المرجع في فهم التعاليم الدينية المقدسة. وهنا اختلفت المعلومات التاريخية بخصوص زمن وطريقة تدوين هذه الكتب المقدسة، ولكن كل الأديان السماوية، بل والأديان غير السماوية، لها كتبٌ مقدّسةٌ يتم التعبد بها، وارتباط ذلك بالتطور عندما تحوّلت الأديان من فكرة مجردة إلى مؤسسة، فأصبح لها أماكن للعبادة اختلفت تسمياتها، ورجال دين أيضاً اختلفت تسمياتهم باختلاف الأديان مع مرور الزمن.
الثالث: وجود مفسرين للتعاليم بعد المرحلة الأولى لظهور الدين، وهنا تكمن المعضلة والمشكلة. فإن الفرد آمن بالله وبالغيب وبالرسل الذين عايش عصرهم، وشاهد مدى تقواهم وورعهم، ومع تقادم العصر وتطور التفاسير التي هي فهم بشرى للنصوص المقدسة، ظهرت المشكلة. وبما أن البشر يختلفون في قدراتهم العقلية ومصالحهم وميولهم وأهوائهم، وبما أن الزمن حقيقة متغيّرة، وكذلك العلوم والمعارف، فإن الفهم أيضاً من الحقائق المتغيرة والمتطورة، وهنا حدثت النقلة من الدولة الدينية بكل قيمها ومبادئها المثالية، إلى دولة ثيولوجية، أي دولة رجال الدين والمفسّرين للنصوص الدينية من البشر، والذين تحوّلوا إلى حكام لهم مزاياهم ولهم عيوبهم ونقائصهم، ولذلك ظهر الاستبداد الديني الذي أصبح فوق الملوك، أي فوق الحكام الزمنيين.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3787 - الجمعة 18 يناير 2013م الموافق 06 ربيع الاول 1434هـ