بين إعلام قائم على هز الوسط وإعلام قائم على حرق البخور ووضع المساحيق ضاع الإعلام الحر وبقيت الجماهير سنين طويلة تلتقط أخبار ديارها من الـ ، أو من الـ خخ. يصاغ عقلها بثقافة تسطيحية ساذجة ويشكل وعيها عبر نخب وقنوات وإذاعات تشكل برامجها من تقطيع صور وأخبار المجلات. وكان الخطاب الإعلامي الرسمي من المحيط إلى الخليج يضحك علينا الدول الغربية بل وحتى ابنتها «إسرائيل» التي طالما سخرت من الديمقراطية العربية عبر رسومات الكاريكاتير في صحفها كصحيفة «يديعوت احرونوت» وغيرها.
وفي ظل هذا الواقع انطلقت قناة الجزيرة التي استطاعت إلقاء حجر في بحيرة الإعلام العربي الراكدة وذلك بكسرها الكثير من المحظورات، واستطاعت أن تؤسس أسسا إعلامية أذهلت الكثيرين. وها هي تقطف بعض الثمار هذه الأيام في محاولة تلبيسها تهمة دعم الإرهاب ولو بطريقة غير مباشرة باعتقال تيسير علوني من قبل القضاء الإسباني في توريطه ولو عنوة بتهمة الانتماء لتنظيم القاعدة. هكذا يذهب الصغار ضحايا مؤامرات الكبار.
ليس دفاعا عن «الجزيرة» على رغم أنها وبحق تستحق تقدير المشاهد العربي لو لم يكن إلا لامتلاكها سبقا تاريخيا في كسر حواجز المحرمات في العالم العربي.
بعض ما يؤخذ على القناة استضافتها الإسرائيليين، ومن انتقدوها بالأمس هم يمارسون النقد ذاته باستقبال «إسرائيل» في مؤتمرات وعلاقات وغيرها. لا شك أن القناة وقعت في أخطاء وبعضها كان فادحا ولكن ما نحن بحاجة إليه هو قنوات سبقٍ غير موجهة، ومستقلة حتى نعطي صورة أفضل مما قدمته قناة الجزيرة. بكسر حظيرة الإعلام عبر قناة الجزيرة انطلقت قنوات كثيرة وراح أكثر العرب في سباق لكسب ثقة المشاهد العربي، ولكن على رغم ذلك مازالت كل هذه القنوات بما فيها «العربية» و«قناة أبوظبي» تلقي بحجارة من أُحرجوا من أداء هذه القنوات.
فهل صحيح «أن الجزيرة زهرة تنشط الديمقراطية فيها» كما قال توماس فريدمان في «نيويورك تايمز»؟ وهل صحيح أنها «الحزب السياسي الأكثر شعبية في العالم العربي» على حد تعبير محمد كريشان في صحيفة «القدس العربي»؟ ربما يكون ذلك. ولكن هذا لا ينفي أنها أزعجت الكثيرين منا وسببت الصداع لغالبية دولنا العربية. فقد قال الرئيس مبارك أثناء زيارته مقر القناة في الدوحة متعجبا: «كل هذه المتاعب من الصندوق هذا؟!». وعلى رغم ذلك نجد بعض الرؤساء مولعين بمشاهدتها. وراح الشيخ حمد بن ثامر في «القبس» الكويتية بتاريخ 62/4/0002 ينفي تهمة عنها، قائلا: «إن الجزيرة ليست صناعة أميركية بعقال قطري، إنما هي قناة عربية تتعاطى مع الشأن العربي بشكل مهني».
الإعلام المهني والصحافة المهنية تعد تهمة في عالمنا العربي، ولكن يجب أن ترقص ثقافيا وتقبل بالزواج الصحافي وتستغل الشهرة والانتشار ليكون كلامك رشوة علنية مع أهل المصالح، وإلا فأنت متآمر على الوطنية. و«الجزيرة» متهمة بالإثارة وحب خلق المشكلات والتآمر على القضايا الوطنية لأنها تعاملت بنصف مهنية، فكيف لو قالت كل الحقيقة؟
فالصحاف اتهمها باختلاق الأكاذيب، وبيريز اتهمها بأنها «تحرّض على الحقد» وتونس اتهمتها بالإساءة لتداولها سجل حقوق الإنسان في تونس، وليبيا استدعت سفيرها العام 0002 لأنها وصفت «اللجان الشعبية بمجرد واجهة والقرار الفعلي بيد الرئيس القذافي»، وحكمت محكمة كويتية بتغريمها 5 آلاف دينار كويتي لـ «إساءتها إلى الشعب الكويتي»، ومصر اتهمتها بتمويل سعدالدين إبراهيم في إثارته لما «يمارس من تمييز ضد الأقلية القبطية»، وحتى ياسر عرفات قدم ورقة احتجاج بسبب مقابلة أجرتها مع الشيخ ياسين.
هذا هو مستوى رحابة الصدر العربي، في أميركا يقدم الرئيس إلى المحاكمة، وفي بريطانيا يناقش بلير حتى يتصبب عرقا، وعربيا تخشى من نقاش موظف صغير في مؤسسة خوفا من اتهامك بالخيانة الوطنية! تلك هي ديمقراطيتهم، وهذه هي ديمقراطيتنا.... تهانينا
العدد 378 - الخميس 18 سبتمبر 2003م الموافق 22 رجب 1424هـ