أمامي الآن، سِفرٌ عظيم. عَظَمته ليس في صفحاته الـ 1231؛ وإنما فيما يحويه من رَصد وأرخنة، لأحداث جِسام، وقعت قبل خمسمئة عام في أوروبا، لكنها غيَّرت وجه العالَم. لم تغيِّره جغرافياً فقط، بل إنها بدَّلت من أفهامه، وقضَّت من أمنه الاجتماعي!
الكتاب الذي أعدَّه بصبر خرافي، أستاذ العلوم الكَنَسيَّة، في الجامعة الكاثوليكية بباريس، جوزيف لوكلير (1895 – 1988) يُحدثنا عن أحداث، يبدو أن بعضاً من عالمنا العربي والإسلامي، سيُكرِّرها، بلا عقل وبلا منطق ولا حياء حتى.
الأحداث التي يتناولها ذلك السِّفْر، هي تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، وإرهاصات الحروب المذهبية، التي قَضَمَت من جغرافيا ودماء وحياة وحاضر ومستقبل الأوروبيين لعشرات السنين. ونحن هنا، لسنا بصدد إعادة قراءة ما جاء في ذلك الكتاب، بقدر ما ندعو إلى اجتراح ما يُمكن اجتراحه لِلَجْمَ هذا الجنون الطائفي القذر في عالمنا العربي والإسلامي، والذي لن ينكسر قلمٌ، ولن يجفَّ حبرٌ، أمام استطالته. فالكلمة، هي أصل تفاهم البشر، الذي يخيط معاملاته اليومية، بسبعة آلاف لغة، تبدأ من يوكون بكندا، ولا تنتهي إلى استراليا، في أقصى جنوب العالم.
الحقيقة، أن تفكيك العنوان الطائفي، وإزاحته عن مركز الوصاية على العقل والشعور واللاشعور، عند البشر، ينطوي على العديد من الإجراءات، والممارسات التي تسبق الحديث عن أيِّ مشروعات حل، للمسألة الطائفية، التي تعصف بالعرب والمسلمين. فهذه المسألة عصيَّة أمام الحلول الباهتة، والاقتصار على نفخها في الإعلام بخطورتها. هي تحتاج إلى علاجات عمودية.
لذا، فإنني دوَّنت مجموعة من الملاحظات، التي يُمكنها أن تكون مدخلاً إلى مناهضة الفكر الطائفي:
أولاً: يتوجَّب قبل كل شيء، صياغة العقل البشري، والشعور الإنساني على التشاركيَّة، والنُظرائيَّة، وليس على التقسيمات المادية. فالعلاقات البشرية القائمة على التفاصيل المتغايرة أو المتشابهة، عادةً ما توجِبُ تزاحماً واضطراباً في النظرة إلى الأمور، ومقاربة الأشياء وفق منطق الاستحواذ والريبة، خوفاً (بوهم) على الوجود. وعندما يقع العكس، فإن المشتركات عادةً ما تخلق تناظراً ومساواة في «العِنديَّة»، وبالتالي يصبح الصراع قائماً على ما هو خارج عن حيازة الأفراد المتساوين، ضد مَنْ يسعى إلى أخذ ما لديهم دون تفريق بين التشابه والتغاير المتبادل.
هذا الأمر، لا تساهم فيه العلاقات البشرية المطلقة، والقائمة على الطبيعة السلوكية لحياتهم اليومية ومعاملاتهم، وإنما تتم صياغته سياسياً أيضاً.
وما أعنيه بالصياغة السياسية، هو إعادة إنتاج مفهوم المواطنة، الذي يقوم على عدم التصنيف الطائفي، ولا على نظام الامتيازات، الذي تلجأ إليه عادةً النظم السياسية المغلقة والقمعية لتحقيق أغراض سياسية، وخلق قاعدة إسناد شعبية لها على الأرض، في مواجهة استحقاقات الإصلاح السياسي في الدولة.
كثيرٌ من المشاكل الاجتماعية والطائفية، تولدت جرَّاء الفرز الخاطئ للمواطنة، وتشطيره وفق منطق الزبائنيَّة السياسية. فالجماعات والأفراد الذي يُوضعون في منازل أدنى في مسطرة المواطنة، ضمن معادلة مُركبة، يختلط فيها التمييز القائم على زاويتي الطائفة والحليف، عادةً ما تتولد لديهم مشاعر العداء تجاه «المنتفعين» بفعل التمييز، وبالتالي يتوسَّع الصراع من صراعٍ ما بين النظم السياسية، والجماعات المضطهَدة، إلى الصراع بين هذه الجماعات والطبقات المستفيدة، المسنودة من السلطة، حينها يصبح الصراع معقداً وقابلاً للتأويل الطائفي.
ثانياً: إقامة علاقات اندماج تصاهري، وفق مفهوم «الدماء المتعاكسة»، أو كما يُسمَّى اليوم، بالزيجات المختلطة. فتوسُّع مثل هذه الزيجات، وهذا النوع من الاندماج، يخلق حالةً من السكينة الثنائية، والانتماء المتبادل، والمصالح المشتركة، على مستوى الأسرة الصغيرة غير المركَّبة، ليجعلها لاحقاً، سلسلة متذاررة من البشر، الأمر الذي يكسر حالة الانكفاء على الدَّم الواحد المتوحِّد مع ذاته.
ولقد أثبتت التجارب ذلك بشكل واضح، خلال الحرب الطائفية في العراق (2006 - 2008). فأحد مقومات المجتمع العراقي هو قيام عشرين في المئة منه على الزيجات المختلطة. ولو أن ذلك المجتمع كان متأسساً بشكل صرف على الدماء ذات البُعد الاجتماعي الواحد، لكانت الكلفة أعلى مما جرى بثلاثين ضعفاً.
واليوم نجد هذا الأمر أيضاً يتكرّر في التجربة السورية «الاجتماعية»، وبالتحديد في مناطق حلب وحمص والساحل، حيث لعِبَت الدماء المتعاكسة دوراً مهماً في حماية المجتمع السوري، من الانقسام الطائفي الشامل، منذ اندلاع الأزمة قبل عامين.
وبالمناسبة، فإن هذا النوع من الاندماج، لا يخص فقط المسألة الطائفية، بل هو يمتد إلى الأعراق أيضاً، وإلى الجماعات القبلية والإثنيات. بل الأكثر من ذلك، فإن مثل هذه الزيجات، كانت منهجاً اتبعته عروش ملكية حاكِمَة في أوروبا لتعزيز الشراكة السياسية، والمصير المشترك، وتحصين المصالح، حين كان الملوك والأمراء، يتزاوجون من أبناء ذوات لعروشٍ أخرى. (فيليب هابسبورغ ومانويل الأول أفيس مثالان على ذلك).
ثالثاً: تشتيت الديمغرافيات الطائفية وتذويبها. فمن بين المشكلات الكبيرة التي تساعد على تربية وتفريخ الطائفية، هو تساكن البشر المتجانسين طائفياً، في جغرافيات محددة، وواضحة الحدود، وهو سلوكٌ خاطئ. بل إن ذلك يساعد كثيراً على إضعاف الأمن الاجتماعي والأهلي، حين تصبح المدن والأرياف والأحياء، علامات طائفية يسهل استهدافها، وتثوير المجتمع من خلالها.
لقد بيَّنت تجارب الدول، أن مجاورة الناس لبعضهم جغرافياً، وفق خليط لا يتسم بالطائفية، كانت سبباً في تكريس الإحساس غير المتجزئ بالآخر، والعكس صحيح. فالعيش ضمن محيط لا يستطيع التمدد في الدَّم والتعامل اليومي إلى أشكال وأنماط مختلفة، يجعل منه مجتمعاً محجَّماً، لا يرى ولا يسمع ولا يتنفس إلاَّ من ذات القالب الاجتماعي والسياسي والديني الذي ينتمي إليه، وبالتالي، كانت الهجرات الداخلية، إحدى أهم العلاجات التي استخدمتها أوروبا.
بالتأكيد، هناك انتظام تاريخي وجغرافي، سَلَكته كثيرٌ من الشعوب في العالم، حيث أصبحت الأصقاع الجغرافية توسم بساكنيها، إلاَّ أن تمدُّد البشر لم ولن ينتهي بعد، وبالتالي تظل الفرصة قائمة لإنتاج ديموغرافيات وجغرافيات مختلطة.
(للحديث صلة).
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3778 - الأربعاء 09 يناير 2013م الموافق 26 صفر 1434هـ
حكمة أحمد بدير
لا يأس مع الحياة ولا حياة لمن تنادي .. صدق الممثل القدير أحمد بدير
نشكر الكاتب ولكن كيف نأتي بهكذا حلول الان ؟
الان أنكسرت الجرة كيف يعاد ترميمها بعد ان سالت دماء وجرى قبر بعضها ، ومازال الآتي أعظم وخصوصا ان معول الهدم قائم الان على قدم وساق وكيف السبيل لأصلاح وتفاهم مع غريم هو مبيت النية والتخطيط المسبق للفرز على شاكلة ماهو مبيت ومخطط في ثنايا عقله .. فمن ياترى يستطيع لجمه والمحرضون والمطبلون له كثر .
نسيت كان الشيطان يعلمه ،، الان الشيطان يشكره فقد أتم ما هو ناقص وتفرغ هو للرقص مع الذئاب .. ......
رحال الفتنة
وما هي الوصفة العلاجية لرجال الفتنة من رجال الدين المغرضين؟؟؟؟؟؟؟؟؟