العدد 3768 - الأحد 30 ديسمبر 2012م الموافق 16 صفر 1434هـ

الظلام الذي يحاول إقناعنا بأنه الضوء

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا يخلو حيّزٌ من ظلام نتلمّسه ونُعاينه بالحواس التي نملك. الظلام سنّةُ أمكنةٍ وأزمنةٍ وأنفسٍ؛ لكن ذلك لا يعني أن نكون أبناء أوفياء ومخلصين وفدائيين وأحياناً انتحاريين للظلام ذاك. هو ظلامٌ مضاعفٌ حين يحدث ذلك.

الظلامُ غلٌّ، فخٌ، كمينٌ، غدْرٌ، فتْكٌ، ارتطامٌ، عمىً. لا صفة من بين كل ذلك يمكن أن تتيح لك فرْجة عبور إلى حيّزك المعتاد والبسيط وشبْه الآلي، ذلك الذي تأوي إليه في ربْحك وخسارتك، عنفوانك وشيخوختك، كبريائك وانكسارك، رفاهيتك وحرمانك، أمانتك وخيانتك، سَعَتك وضيقك.

لا ظلام يتجرَّأ على الكذب عليك، بإيهامك أنه أصل الدليل، والمنارة في المتاهة، وقصّاص الأثر حين تضلّ، والقادر على البلوغ بك إلى الصراط المستقيم بإضافات وإكسسوارات لا تخطر لك على «بال». ذلك دجلٌ «بالَ» على نفسه ووجد في ذلك طهارته. الظلام يجد في نفسه ضوءاً لا يقوى بضر الخلق وبصائرهم على تحمّله.

الظلام هباته وهْم لا ينتهي وبسخاء بالغ. أبسط هداياه: الارتطام! أذى لا ينقطع وهمٌّ يمتصُّ زهرة ورحيق وماء عمر أي منّا.

صحيح أنه لا أحد بمنأى عن الاثنين: الظلام والضوء؛ لكن من قال إن النأي عن الظلام يُحدث فارقاً وإرباكاً في حياة أي كائن ومخلوق؟ ومن قال إن النأي عن الضوء لا يفعل ذلك؟

الظلام أول الهشاشة وتاريخها. لا مستقبل للظلام. إهلاكٌ للحواس واستفزازٌ لها يكاد لا ينقطع. جسارة في ظل وهن الخلق المقيم واستعدادهم إلى الهرولة للخلف. في ظل تحضيرهم للانكفاء والهروب والتواري وتجنّب المواجهة.

الظلام عدمٌ مُقيم يوهمك أنه الحضور والإقامة. الإقامة بمشيئتك متى ما رأيت فيه قدْرك وقدَرك، مُدِّلاً عليك. مخفوراً به.

الظلام دولة ومَوَاطن اللعب بالمصائر وانتهاب حقها في أخذ حصَّتها المقرَّرة من الهواء والمَرَح والطاعة والعصيان والتمرُّد والدعَة والعناء والبكاء والغناء والإقامة والرحيل.

الظلام أن تنسى أو تتناسى من أنت. أن تشبه سواك الذي لا تحب أن تكونه. أن تذهب في متاهتك من دون وعد بتلمّس الطريق التي وددْت لو سلكتها. أن يظل نورك مسفوكاً ومباحاً حظره على العالمين لا عليك.

وأخطر ما في الظلام أن يأخذ بك إلى الاتجاه العكسي والمضادّ لطبيعة ما خلقه الله منه ومن أجله (النور). إحالة كل شائبة ظلام أو انعدام رؤية إلى نصّ رؤية صريح لا مواربة فيه.

في الجهة الأخرى، في الحسّ الآخر، في الخيار المضادّ، في الوجْهة المثْلى، ضوءُ كلٍّ منّا أن يكون كما يريد هو ضمن مفاعيلَ وحراكٍ وأداءٍ وتعاطٍ له من الميزان ما له، قدْرة على الفرادة والجموح والابتكار والتحدّي، وعليه ما عليه في لحظات ضعف بشري وانزواء وانكفاء. لا أحد منا بمنأى عنه قويَ في تكوينه أم ضعف.

ضوء كل منّا أن يكون هو لا كما يريد سِواه أو ما تُمليه عليه جهةٌ، سلْطةٌ، قوّةٌ، بطْشٌ؛ أو مزاجٌ يطلع من هنا أو هناك.

ضوءُ أيّ منا أن يجد قدرته على الفعل الذي يُضيف ويُراكم ويُسهم في هندسة الكوْن البشري. ضوءُ كل منّا أن يعرف خياراته ومراميه وأهدافه وسبلَ الوصول إليها من دون مَنٍّ أو أذىً أو تجاوز أو قفز على حق غيره في أن تكون له خياراته ومراميه وأهدافه وسبل الوصول إليها في الوقت نفسه.

ضوءُ كل منّا أن يعرف من هو وما حجم طاقته، وأن يتحدّى الحجم ذاك ذهاباً به إلى ما يضاعفه ويؤدّي به إلى الصدارة التي ينشدُ بها صدارة المحيط الذي وُجد من أجل أن يأخذ به إلى السَبْق في المراحل، والأخّاذ من الأداء، والملفت من القيمة، والعميق من المعنى.

ضوء كل منا معناه الذي لا معنى سواه يمكن أن يقيِّمه ويكرّسه ويعمّقه. أثر كل منا ضوء لا ينتهي بشطبه من سجلاّت الأحياء في هذا العالم. يظل أثره فاعلاً، مُقيماً، يمرض ويهرم الزمن ولا يناله نَصَبٌ أو خوار أو ذبول، بالفعل الذي خلَّف، والقيمة التي تركَ، والسمو الشاهر هيبته بين الناس.

الضوء جسارتك على الليل فيك. محو نسيانك الذي لا ينتهي. مجازك وجوازك إلى الضفة الأخرى في علاقتك مع المكان وبشر المكان.

والبشر هم الذين يجعلون من وطن أو منفى إما منحازاً للضوء وظهيراً للظلام. الأوطان لا تشعّ ولا تضيء بالإنارة وهندستها فحسب. إنارتها الإنسان المُهَنْدَس في روحه وقيمه وأخلاقه وبذله. والأوطان في الوقت نفسه لا تكون أسيرة وحبيسة الظلام إلا إذا كان إنسانها في حدود الالتباس؛ أو تأكد أنه يرسف في ظلام أغلاله.

ثم إن كل استفزاز وخروج على فطرة الحياة هو ظلام لا يمكن أن نبحث عمّا يجمّله ولو كنا أحد أحباره ومريديه. وكل محاولة لإعادة الاعتبار للحياة وإنسانها بالدرجة الأولى هي (المحاولة) ضوء لا يمكن للأبراج والأسوار المغلقة أن تذهب خلافه؛ ولو فعلت ذلك فلن يسيء للضوء في شيء؛ لتتعمّق الإساءة المضادّة لها.

في النهاية الظلام لن يصمد أمام جرأة شمعة وهي لا تأبه بقسوة الريح وصلابتها أمام رهافتها.

الوصفة التي يراد إقناعنا بأنها تسهر على راحتنا أمواتاً وأحياء: أن الظلام هو النور الذي به نبصر!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3768 - الأحد 30 ديسمبر 2012م الموافق 16 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:32 ص

      الذنوب والمعاصي

      الذنوب والاخطاء في حق الآخرين وتلاعب بمصائرهم وارزاقهم ياتي بالظلام والجحيم للانسان

اقرأ ايضاً